Monday 28 January 2013

اورشليم بين التوارة والتاريخ


أورشاليم بين التوراة والتاريخ

أ.د. عبد المجيد نصير

مجمع اللغة العربية الأردني

جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 

ملخص

يعرض هذا البحث لمدينة أورشاليم منذ البدايات الغامضة حتى الحكم الروماني، مستعرضا ما في النقوش والسجلات لدول أخرى مثل مصر وما بين النهرين، ونتائج التنقيبات الأثرية، مقارنة مع النصوص في العهد القديم.

تشييد المدينة

تشييد المدن ظاهرة انسانية حضارية فريدة ، كما يقول ثوماس بولين. "فهي التعبير الملموس عن الجوانب الفكرية والاجتماعية الضرورية لحياة إنسانية باقية مستمرة". بل إن كلمة Political مشتقة من كلمة Polis اليونانية وتعني المدينة. وتصور ملحمة جلجاميس تأنيس الرجل البري، إنكيدو، على يد المرأة التي حولته إلى عالم الحضارة، عبر مراحل انتهت بإحضاره إلى المدينة، أوروك، ذات الأسوار.

وتعزو التقاليد القديمة بناء المدينة إلى إله أو بطل أسطوري أو نحو ذلك. فأسطورة التكوين البابلية, إينوما إيليش، تجعل من بابل مدينة صنعها الإله مردوخ. بل إن بابل من باب إيلو أي باب الرب. ومدينة ممفيس كانت مسكن الإله أوزيريس. والبطل الأسطوري، رومولوس، أنشأ مدينة رومة. كما أن صارغون الثاني، الملك الأشوري (721-705 ق.م.)، أنشأ مدينة دور شرّوكين، أي حصن صارغون. وبدأ الإسكندر المكدوني إنشاء عدد من المدن تحمل اسمه. وبعد أن دمر الإمبراطور الروماني هدريان مدينة أورشاليم سنة 135 م أنشأ مكانها مدينة سماها إيليا كابيتوليا , تيمنا باسم عائلته إيليوس. وأخيرا نذكر مدينة القسطنطينية التي أنشأها الإمبراطور قسطنطين. ونذكر عدة مدن أنشاها الحكام المسلمون ، مثل الكوفة وبغداد وغرناطة، وغيرها.

جغرافية أورشاليم

أورشاليم أو القدس أو بيت المقدس مدينة في فلسطين تقع على خط العرض 45 46 31 شمالا ، وخط الطول 25 13 35 شرقا؛ وعلى بعد 22 كم من غرب البحر الميت، و 53 كم شرق البحر المتوسط، و8 كم شمال بيت لحم. وهي هضبة غير مستوية، يتراوح ارتفاعها من 800 م إلى 1000م فوق سطح البحر. تحيط بها عيون، وليس فيها نهر جار. وتتفاوت درجة الحرارة من -5 ْ شتاء إلى 35 ْ صيفا.ورطوبتها متوسطة. وهضبتها من عدة جبال. أولها جبل الطور أو جبل الزيتون، يواجه الحرم القدسي، وبينهما واد عميق يسمى وادي قدرون. وامتداد هذا الجبل في الزاوية الجنوبية الشرقية, هو جبل بطن الهوا؛ ويفصل بينهما وادي سلوان، الذي يتصل مع وادي قدرون. والجبل الثالث هو جبل صهيون، في الجنوب الغربي من القدس القديمة؛ وجبل موريا أو جبل بيت المقدس، وهو الجبل الذي يقوم عليه مسجد الصخرة والمسجد الأقصى. كما تقوم كنيسة القيامة على جبل أكرا. وفي شرق المدينة يوجد جبل المكبر، وهو امتداد لجبل الزيتون. وأخيرا يوجد جبل صموئيل شمال غرب المدينة. وإضافة إلى واديي قدرون وسلوان، يوجد وادي هنم ويسمى وادي جهنم، إذ أن جي تعني وادي في بعض اللغات الجزرية (السامية).

أورشاليم في التوراة

لا يوجد في العهد القديم ( وسنشير إليه بالتوراة) نص واحد حول تأسيس أورشاليم. وعلى ما جاء في التوراة، فإن أورشاليم كانت مدينة اليبوسيين، وهي قبائل سامية. ونجد في سفر التكوين (14: 18- 20) كلاما عن ملكي صادق، ملك شاليم, الذي كان أحد الملوك الذين استقبلوا أبرام العبراني بعد إنقاذه ابن أخيه لوطا من الملوك الذين أسروه. كما نجد في سفر يوشع (14: 1 – 27) كلاما عن أدوني (ومعناها السيد) صادق, ملك أورشاليم الذي تحالف مع ملوك آخرين ضد بني إسرائيل، ولكنهم غلبوا وقتلوا. ومع ذلك لم يدخل يشوع أورشاليم ، التي كانت من قرعة يهوذا. على أننا نقرأ أن بني بنيامين لم يطردوا اليبوسيين، سكان أورشاليم؛ وسكنوا سويا (القضاة 1: 21). ثم نقرأ عن رجل لاوي مغترب ، لم يشأ أن ينام في أوررشاليم حيث لا يوجد أحد من بني إسرائيل فيها (القضاة 19: 21). ثم نجد في صموئيل الثاني أن داوود فتح أورشاليم, "وذهب الملك ورجاله إلى أورشاليم، إلى اليبوسيين سكان الأرض . . . وأخذ حصن صهيون، هي مدينة داوود" (5: 6 – 9). وتوسعت المدينة في عهده، وأحضر تابوت الرب إليها, في وسط الخيمة التي نصبها له (6: 17). وخلف سليمان داوود. وصارت أورشاليم مدينة مهمة، غنية، فيها البنايات العظيمة، إضافة إلى هيكل الرب الذي بناه الفينيقيون (في عهد ملكهم حيرام) (الملوك الأول 5-6)، ووضع فيه تابوت الرب (الملوك الأول 8).

ومات سليمان. وانقسمت مملكته بعده مملكتين: المملكة الشمالية – مملكة إسرائيل وعاصمتها شكيم (السامرة). وقضى عليها القائد الأشوري سنحاريب سنة 721 ق. م. وسبى جزءا من أهلها. والمملكة الجنوبية – مملكة يهوذا، وعاصمتها أورشاليم، التي عاشت حتى سنة 586 ق.م. حين قضى عليها نبوخدنصر الكلداني، وسبى أهلها ، ودمر المدينة (الملوك الثاني 25). ثم نقرأ أن الملك الفارسي قورش ، بعد قضائه على مملكة الكلدان، سمح للمسبيين أن يعودوا. فعاد جزء منهم بزعامة زربابل، الذي بدأ في إعادة بناء المدينة والهيكل (عزرا 6: 15).

أورشاليم في التاريخ

يرجح ورود اسم أورشاليم في نصوص مصرية قديمة، تعود إلى عهد سيوستريس من الأسرة الثانية عشرة (1879 – 1842ق.م.)، وهي نصوص لعن لأعداء مصر، مكتوبة على جرار فخار, كانت تكسر ضمن طقوس سحرية لإنزال اللعنات. في أحد هذه النصوص نقرأ "يقرب- آمور حاكم أورشاليم(؟) وجميع بطانته". وورد الإسم بتهجئة Awsamm التي يمكن قراءتها أيضا Ursalim. ولم يتفق على معنى كلمة Uru. وفي حال قبولنا أن هذا النص يعود على أورشاليم، فمعنى ذلك أن المدينة قديمة جدا. كما نجد هذا الاسم في رسائل تل العمارنة، من عهد أمنحوتب الثاني (1405 – 1367 ق.م.) وابنه إخناتون (1367 – 1350 ق.م.). وقد عثر على هذه الأرشيف الملكي في عمليات التنقيب في أواخر القرن التاسع عشر. وفيه نسخ من مراسلات باللغة الأكادية، وكانت لغة الدبلوماسية آنئذ، بين عدد من ملوك الدويلات في جنوب سورية، التي كانت خاضعة للحكم المصري. ومنها ست رسائل من حاكم أورشاليم، عبدي هبا (خيبا)، يشكو ويطلب النجدة. ورسالتان تشيران إليه، واحدة من حاكم حبرون شوارداتا تشكوه. ورسائل عبدي هبا تطلب تعزيزات تقدر بخمسين محاربا، مما يوضح أن المدينة كانت صغيرة. بل إن مارغريت شتاينر ترى أن عبدي هبا كان حاكما معينا من قبل المصريين على منطقة محدودة صغيرة، مهممته حماية مصالح أسياده، وكان يقيم في حصن صغير قرب نهر جيحون أسفل هضبة عوفيل. وربما كان سكان أورشاليم لا يزيدون على 1500؛ ولا تحوي المنطقة إلا على 8 قرى. وفي النقوش الأشورية نجد اسمها أورساليمو Ursalimmu.

ومع ذلك فمعلوماتنا عن أورشاليم في تلك الحقب ضعيفة جدا. يقول الأستاذ هـ. فرانكن الهولندي، وهو حجة في آثار فلسطين، في محاضرته "القدس في العصر البرونزي":

"إن تاريخ القدس في الألف الثاني قبل الميلاد، هو تاريخ حقبة لم تبق منها أي وثائق تاريخية على وجه الدقة. وأكثر ما يسمى اليوم حقائق تاريخية وآثار من أيام اليبوسيين ليس حقائق، في الحقيقة، بل إعادة تركيب ، بناء على نصوص لا تزال غير مفهومة، لأنها غامضة أو ناقصة، أو بناء على حفريات كشفت بقايا من الصعوبة وصف قيمتها التاريخية. ودون الاحتياط والحذر في تفسير ما لدينا، سنرسم صورة أورشاليم أعظم مما كانت . . . فالأدلة المتوفرة نوعان: أدبي ذو طبيعة لغوية أو شبه تاريخية أو دينية. وفيها اختلطت الحقيقة بالأسطورة التي يمكن تفسيرها بأكثر من وجه. والوجه الثاني من الحفريات، وهي قليلة جدا، لحقبة صغيرة جدا من التاريخ، تتناسب عكسيا مع أهمية التاريخ الذي توحي به".

تأاسس سنة 1865 "صندوق استكشاف فلسطين". وورد في أهداف هذا الصندوق "التحري الدقيق والمنهجي لآثار وطبوغرافية وجيولوجية وعادات وتقاليد الأرض المقدسة، من أجل توضيح مسائل الكتاب المقدس". وكانت حملة الكابتن وارن Warren أول حملة نظمها هذا الصندوق سنة 1867. وحتى 1940 لم يكن معروفا إلا القليل عن التاريخ العمراني لأورشاليم. بل حتى 1960 لم تثمر الجهود المبذولة إلا في تفسيرات تعسفية لتتوافق والرواية التوراتية. وما قلب المجن هو أعمال عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينيون من 1960 إلى 1967؛ وما رافق ذلك من تحسينات على أساليب التنقيب والدراسة. وهذا دعا الأستاذ فنكلشتاين (أحد ألمع علماء آثار فلسطين) ليصرح في ندوة عقدتها جامعة بن غوريون سنة 1998، بأن "المصدر التوراتي الذي تحكم بماضي البحث في أصول إسرائيل قد تراجعت أهميته في الوقت الحاضر، ولم يعد من المصادر الرئيسية المباشرة. فأسفار التوراة التي دونت بعد وقت طويل من الأحداث التي تتصدى لروايتها، تحمل طابعا لاهوتيا يجعلها منحازة. الأمر الذي يجعل من البحث عن بذور تاريخية في المرويات التوراتية عملية بالغة الصعوبة، هذا إذا كانت ممكنة من حيث الأصل".

وبعد احتلال القدس سنة 1967، أجرى المنقبون الإسرائيليون منهم مازار وشيلوه وآفي جاد وآفي عوفر وغيرهم تنقيبات واسعة (ولا يزالون ينقبون بحجج مختلفة). وكان هدفهم الرئيس هو إعادة بناء تاريخ قومي يمكن مشاهدته على أرض الواقع، من خلال أوابد يمكن للجميع زيارتها. وجرى تركيز على الفترة التي يدعى أنها فترة الهيكل الأول (الذي زعم أنه بني في زمن سليمان)، وما تلاها من بعد السبي، مما يدعى أنه فترة الهيكل الثاني. ودون الخوض في التفاصيل، فإن التنقيبات أظهرت أن أورشاليم في عصر الحديد الأول (1200 – 1000 ق.م.) كانت منطقة صغيرة، وكأنها قلقة، لم يسكنها عدد كبير من الناس، ولكنها كانت تسيطر على مساحة من الأرض الزراعية حولها.

وفي مطلع عصر الحديد الثاني (1000 – 587 ق.م.)، وبخاصة في بداية العصر، كانت أورشاليم بلدة صغيرة، لعبت دور السوق المحلية للمنطقة حولها. ولم تكن مدينة ملكية كبيرة، بل كانت مركزا إداريا يتمتع بأهمية محلية محدودة. ولم تزد مساحتها على 125 دونما (الدونم يساوي 1000 م2 )، فيها بعض البنايات الإدارية، ولا يتجاوز عدد سكانها 2000 نسمة. ومن المستبعد أن بلدة كهذه، كانت عاصمة لدولة كبرى كتلك الموصوفة في النص التوراتي، أي لمملكة إسرائيل الموحدة. وفي القرن السابع قبل الميلاد، حصلت سلسلة تغييرات جذرية، أثرت على المدينة. ومنها خراب عاصمة المملكة الشمالية، وما استتبع ذلك من نزوح طبقات مختلفة ماليا وحرفيا إلى مكان أكثر أمنا كأورشاليم. فتوسعت المدينة أربعة أضعاف مساحة، وربما بلغ عدد سكانها عشرة آلاف (مع شك في هذه الأرقام).وأحاط بها سور ضخم، بني في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، تراوحت سماكته من 5 إلى 7 أمتار. وكانت المدينة تتزود بالماء عن طريق أنظمة ماء سفلية معقدة. ولا شك أن النشاط الاقتصادي قوي سواء مع الداخل أم مع الخارج.

إن أهم ما توصل إليه المسح الآركيولوجي الميداني خلال العشرين سنة الأخيرة، هو أن الجماعات التي توطنت مناطق الهضاب الفلسطينية منذ مطلع عصر الحديد الأول ، لم تخرج من مصر في موجة هجرة واسعة؛ ولم تدخل فلسطين بعد فترة تجوال في الصحراء؛ ولم تأت بديانة نزل وحيها في سيناء؛ ولم تفتك بالسكان المحليين أو تحل محلهم. كما أن ثقافة أولئك المستوطنين تعكس انتماءهم لثقافة عصر البرونز الأخير (1550 – 1200 ق.م.)، وللثقافة السائدة في بقية المناطق الفلسطينية. وما جرى في منطقة الهضاب في عصر الحديد الأول هو أن جماعات متفرقة من السكان الفلسطسنيين، الذين هجروا أراضيهم في فترة الجفاف الطويلة التي سادت المنطقة ، كانت تعود إلى حياة الزراعة والاستقرار بعد فترة طويلة من حياة الرعي والتنقل. وأسست مجموعة من القرى الصغيرة المتباعدة؛ وجهزوا حقولا زراعية. ومع الزمن تزايدت الصلات العائلية بينها. ثم ولـّد شعورهم بالتعاون نوعا من الإحساس بهوية إثنية. وبعد ما يقرب من ثلاثة قرون، ألف هؤلاء السكان قاعدة لمملكة السامرة ثم مملكة يهوذا.

باختصار شديد، فإن رواية التوراة عن اقتحام حربي أو سلمي في أيام يشوع، ثم قيام مملكة متحدة، ابتداء من الملك داوود، وبعده ابنه سليمان، ثم انقسامها مملكتين هو "ابتكار أدبي خيالي، لا يعطيه صفة الواقعية كونه يجري على مسرح جغرافي واقعي؛ مثلما لا يعطي صفة الواقعية لقصص ألف ليلة وليلة كونها تجري في بغداد أو غيرها من مدن السلام..." . "إن ما يقوله علم الآثار، بكل بساطة، هو أن المملكة الموحدة لم تقم لها قائمة، لأنه لم يوجد ما يكفي من السكان لقيامها. ولم يكن هناك عاصمة أو مراكز حضرية ذات شأن. وأن منطقة الهضاب الفلسطينية لم تكن قادرة على تطوير هيكلية دولة حقيقية إلا في سياق القرن التاسع قبل الميلاد، عندما ظهرت الدولة في الشمال، بعيد بناء مدينة السامرة حوالي 880 ق.م."

أما دولة يهوذا في الجنوب، فلم تظهر إلا بعد قرن ونصف من ذلك. ففي بداية القرن التاسع قبل الميلاد كانت هذه المنطقة تحوي حوالي 20 قرية زراعية إضافة إلى جماعات رعوية. ثقافتهم هي ثقافة عصر البرونز الأخير، مما يعني وفودهم من مناطق مجاورة، وليس من خارج المنطقة. ولم تتحول الصناعات البسيطة (للزيت والفخار) إلى صناعات مركزية ضخمة. ولم يبدأ استعمال الكتابة على نطاق واسع إلا من أواخر القرن الثامن قبل الميلاد إلى مطلع القرن السابع. ولا يوجد ما يدل على أن أورشاليم وحبرون تحولا إلى مركزين إقليميين مهمين في أثناء ذلك القرن.

تنقيب وسجلات

دلت نتائج المسح الآثاري الشامل الذي قام بع عالم الآثار الإسرائيلي آفي عوفر لمرتفعات يهوذا أن الاستيطان البشري توقف في المناطق المحيطة بأورشاليم منذ مطلع عصر البرونز الأخير؛ ولم يعد إليها إلا في الفترة الانتقالية بين القرن العاشر والتاسع قبل الميلاد. وقد توصل إلى هذه النتيجة أيضا عالم الآثار الهولندي هـ . فرانكن Franken من جامعة ليدن، وزميلته مارغريت شتاينرSteiner . ولم يتغير هذا الوضع خلال عصر الحديد الأول، ومطلع عصر الحديد الثاني في القرن العاشر قبل الميلاد. وتركزت تنقيبات إيجال شيلوه Yigal Shiloh  في سبعينات القرن الماضي على ما يدعى مدينة داوود، بحثا عن آثار القرن العاشر والمملكة الموحدة. وكانت النتائج مخيبة لآماله. بل إن الآثاري ديفيد أوسيشيكن David Ossishkin من جامعة تل أبيب أكد غياب دلائل حتى لكسر من الفخارالصغيرة، التي قد تدل على حياة سكنية نشطة.

كما أوضحت التنقيبات الأثرية أن المدينة الأصلية وحتى القرن الثامن قبل الميلاد، كانت تقع بأكملها على السلسلة الشرقية. وأن حدود السور الشرقي تقع في سفح السلسلة. وكما ذكرنا، فإن المدينة قديمة، يمتد تاريخها إلى مطلع الألف الثالث قبل الميلاد. ومع مطلع الألف الثاني تظهر دلالات انقطاع سكاني وحضاري، ربما لاجتياح القبائل العمورية منطقة وادي النيل والهلال الخصيب. ثم بدأت المنطقة بالانتعاش. وظهرت المدينة اليبوسية، مع سور يرجع إلى 1800 ق.م. وقد رسمت السيدة كينيون حدود المدينة، ولكن لم يبق منها شيء يذكر؛ ربما بسبب استخدام حجارتها في بناء الطبقات السكانية التالية. وفي عصر البرونز الأخير, أدخلت تقنية نشاء جديدة، هي مصاطب متدرجة على المنحدر السرقي، بنيت بأحدار كبيرة. وتقول السيدة كينيون "لم يعثر على أية آثار تعود إلى العهد اليبوس، أو العهد الإسرائيلي. ومن غير المحتمل العثور على أية بقايا". وربما بني هيكل في عهد مملكة يهوذا, كما سنذكر تاليا، لكن لم يبق من آثاره شيء. وبعد إعمار المدينة بعد العودة من السبي، توسعت المدينة. ويذكر سفر نحميا أن زربابل، قائد العائدين، بنى هيكلا في أورشاليم حوالي سنة 515 ق.م.  ثم وسعه هيرودس، كما سنذكر. وقد دمر هذا الهيكل.

نعود إلى التاريخ. بدأت آشور بالضغط على ممالك غرب الفرات منذ القرن التاسع قبل الميلاد، وكانت أكثرها ممالك آرامية. وظهرت تحالفات بينها بقيادة ملك دمشق لمواجهة الخطر الأشوري. ودارت معركة قرقرة سنة 854 ق.م. بين الملك الأشوري شلمناصر وحلف سوري من 12 ملكا بقيادة هدد عدر ملك دمشق، ومعه القوة الثانية أهمية وكانت قوة آخاب ملك إسرائيل. وتذكر السجلات الأشورية الحوادث غرب الفرات حتى 810 ق.م. ثم كانت حملة هدد نيراري الأشوري غرب الفرات حوالي 796 ق.م. وفي عهد شلمناصر الرابع، شن عامله على منطقة الفرات شمسي إيلو حملته على بلاد إمريشو (دمشق)، وأخذ الجزية من ملكها حديانو. وحتى هذا التاريخ لا نجد ذكرا لأورشاليم أو يهوذا. وتمردت دمشق مرة أخرى على آشور بعد موت هدد نيراري. فأخضعت مرة أخرى سنة 773 ق.م. وما أن صعد العرش الأشوري تغلات فلاصر الثالث (745 – 727 ق.م.) حتى بدأ سياسة التوسع وضم الأراضي بالقوة إلى التاج الأشوري، وتعيين ولاة أشوريين. كما اتبع سياسة الترحيل المنظم للشعوب المغلوبة، التي شملت أكثر من مئة شعب. وتوضح سجلات أشور أن قتالا شديدا وقع بين آشور وآرام دمشق لمدة سنتين في حملات 734 – 732 ق.م. وأدى ذلك إلى مقتل ملك دمشق رصيانو. كما استولى ملك آشور على المناطق الشمالية من مملكة السامرة. وجاء بعده ابنه شلمناصر الخامس (726 – 722) ثم صارغون الثاني (حتى 705 ق.م.)، الذي واجه حلفا سوريا جديدا بقيادة ملك حماة. لكن صارغون غلبهم؛ وأسكن 6300 أشوري في أرض حماة، وعين عليها حاكما من عنده. وفي عهده حوصرت السامرة سنة 721 ق.م. وقهرت. فأجلى من أهلها 27290، وأسكن فيها شعوبا أخرى. وجعل أحد ضباطه حاكما؛ وانتهت مملكة إسرائيل.

وأفاد دمار السامرة أورشاليم. فقد نزح إليها من نزح، وزاد عدد سكانها، ولا شك أن حرفيين وصناعيين انتقلوا إليها ينشدون الأمن والرزق. وزاد عدد سكان الهضاب الجنوبية، وبلغ عدد قراها 300 قرية. وبدأ التعامل مع الخارج؛ وتراكمت الثروات، ونشأت شريحة بيروقراطية مدربة حول الطبقة الحاكمة تساعد في إدارة شؤون البلاد.

بدأ ذكر أورشاليم ويهوذا في السجلات الأشورية منذ عام 773 ق.م. وورد ذكرها وذكر ملكها آحاز في لائحة ملوك غرب الفرات الذين دفعوا الجزية لملك آشور تغلات فلاصر الثالث حوالي 735 ق. م. واستطاعت أورشاليم أن تلغي استقلال حبرون وبسطت سلطتها عليها, وعلى مرتفعات يهوذا وصولا إلى بئر السبع. وأبقى صارغون الثاني على استقلال أورشاليم، ولم يقتحم أراضيها، مع أنه دمر السامرة ومدنا أخرى مثل أشدود وغزة وعقرون. وبقي آحاز في خدمة ملك آشور. وقطف ثمار عمالته بعد خراب السامرة وانتهاء استقلال دمشق. وقد عين آحاز ابنه حزقيا وليا للعهد، حكم إلى جانب والده 14 سنة. وامتدت سنوات حكمه من 729 إلى 696 ق. م. وحسب سفر الملوك الثاني، فإن آحاز جنح عن عبادة يهوه، لكن ابنه عاد إلى عبادته. وبعد موت صارغون الثاني، وغياب جيوش آشور لأربع سنوات، بدا لحزقيا أن يتحالف مع المصريين ضد آشور. فصعد سنحاريب سنة 701 ق.م. وأخضع فينيقيا والساحل الفلستي ومدنه وسهل شفلح ، وأخضع مدينة أشقلون زعيمة التحالف الفلسطيني، ودمر مدينة لخيش تدميرا كاملا. والتقى آحاز في سهل التقو. وانهزم آحاز والقطعات المصرية المحالفة له، وتحصن في أورشاليم. وهناك حاصره الجيش الأشوري، ودمر 46 قرية وبلدة في يهوذا. وبعد حصار طويل، عاد آحاز إلى بيت الطاعة الأشوري. وتؤيد نتائج التنقيب الأثري هذا الدمار. وفي قصر سنحاريب في عاصمته نينوى، يوجد نحت بارز يظهر حصار لخيش والأسلحة وأدوات الحصار الأشورية المستخدمة, ودفاع أهلها، ثم سقوطها وسبي أهلها. كما تظهر آثار الدمار في يهوذا, في كل موقع. مما يدل على أن سنحاريب أراد أن يهدم البنية التحتية الاقتصادية ومصادر الثروة.

بعد ذلك، يظهر أن أورشاليم بقيت في طاعة آشور. ونجد صمتا تاما عن ذكرها، فيما عدا خبرين عابرين عن الملك منسي خليفة حزقيا. وكانت آشور احتلت مصر ؛ وجيوش أسرحدون وابنه بانيبال تعبر فلسطين في سيرها إلى وادي النيل ، تؤدب أي مدينة تشق عصا الطاعة.

جاء منسي بعد حزقيا سنة 696 ق.م. ولم ترق سيرته لكاتب سفر الملوك الثاني، فقد ذكره بسيرة سيئة، بحجة أنه ترك عبادة يهوه ، وسار وراء آلهة أخرى. لكن منسي كان الملك الأقوى الذي أعاد لمملكته عافيتها بعد دمار حملة سنحاريب. فقد كان ملكا واقعيا، أدرك أن ازدهار مملكته هو في طاعة آشور، والاندماج في اقتصادها. فازدهرت أورشاليم وخلفت لاخيش في التجارة الداخلية والتجارية.وانتشرت القرى الزراعية. وتدل نقوش يمنية على جرار فخارية على وجود تجاري يمني في أورشاليم، بسبب القوافل التجارية.

وتعتبر فترة حكم منسي الذروة في تاريخ هذه المملكة ثروة ورخاء وعظمة. وجاء بعد منسي ابنه أمون ابن السنوات الثمانية. وحكم 31 سنة (639 – 608 ق.م.)، وعاصر زوال آشور، وصعود الأسرة الكلدانية  في بابل. إذ مات آشور بانيبال سنة 633 ق.م. ، وأعلن نابو بولاصر نفسه ملكا في بابل، مستقلا عن آشور. وعقد حلفا مع مملكة ميديا في غرب ايران. وزحف جيشاهما على مدن نينوى ونمرود وآشور التي سقطت بين سنتي 614 و 612 ق.م. وتراجع آخر ملوك آشور إلى حران، واستنجد بملك مصر نخو، الذي هرع إلى مساعدته سنة 609 ق.م. واعترضه يوشيا بن أمون. وهـُزم يوشيا، وجرح جرحا بليغا مات على إثره. ورث نبوخذ نصر عرش بابل سنة 605 ق.م. وهزم نخو في معركة قرب كركميش على نهر الفرات. وطارده نبوخذ نصر إلى مصر، حتى لا يبقى لأشور نفوذ في سورية. وفي طريق عودته، توقف في أورشاليم، وقبض على ملكها يهوياقيم، وعين ابنه يهوياكين الذي تعهد بالولاء لبابل. لكن هذا الملك أراد أن يغير ولاءه لمملكة مصر ن. فكانت حملة كلدانية جديدة، حاصر فيها أورشاليم وفتحها. وقبض على الملك وساقه أسيرا إلى بابل مع 10000 من سكانها. واستولى على كنوز الهيكل، وعين صدقيا عم الملك ملكا على أورشاليم سنة 597 ق.م.

لم يتعظ صدقيا بما حصل. وظل يحرض ملوك شرق الأردن وفينيقيا على التمرد. فزحف عليه نبوخد نصر، وحاصر أورشاليم لمدة سنتين، حتى فتحها؛ ودمرها تدميرا كاملا، وأحرقها بالنار، وساق أهللها سبايا إلى بابل؛ ولم يبق في الأرض إلا فقراء الفلاحين. وقتل أفراد عائلة الملك صدقيا أمام عينيه، ثم سملهما، وقاده أسيرا ذليلا إلى بابل. وهكذا زالت مملكة يهوذا سنة 586 ق.م.

ديانة يهوذا

لقد جعل كتبة الأسفار رضا يهوه وغضبه العامل الوحيد في تقدم الدولة وانتصاراتها أو خساراتها. ومع ذلك، لا يوجد ما يؤكد أن عبادة يهوه كانت واسعة الانتشار، أو كان يهوه الإله الأوحد. إذ تدل اللقى الأثرية على أن آلهة كنعان التقليدية التي سادت في عصر الحديد الأول, كانت الآلهة المعبودة رسميا وشعبيا. أما الإله يهوه الذي اختاره كهنة أورشاليم بعد العودة من السبي، فلم يكن في مملكة يهوذا إلا واحدا من آلهة فلسطين القديمة. وكان عضوا رئيسا في مجمع واسع من الآلهة والآلهات، وكان زوجا للإلهة عشيرة. ويبدو ذلك واضحا من آلاف التماثيل المسماة التماثيل الجذعية، التي وجدت في كل موقع تنقيب، يعود إلى عهد مملكة يهوذا. وهي تمثل الإلهة عشيرة. وكانت تستخدم في طقوس خاصة تهدف إلى استثارة قوى الخصب في الطبيعة. وتذكر بعض نصوص سفري الملوك, الأول والثاني عشيرة وتماثيلها. وتذكر وجود تمثالها في محراب منزل أم الملك آسا (سفر الملوك الأول 15:13، 21:7). كما وجدت هذه العقائد محفوظة لدى جالية يهودية عاشت بعد السبي في جزيرة الفيلة في النيل ، ونقلوا معهم عبادتهم. ودراسة أرشيف هذه المجموعةتوصل إلى "أن بقية سبي يهوذا التي رجعت  من بابل ، وأعادت بناء هيكل أورشاليم، كانت ما تزال على الدين اليهودي التقليدي لمملكة يهوذا البائدة. وأن عبادة يهوه التوراتي لم تكن قد تأصلت خلال القرن الخامس قبل الميلاد".

وبعيدا عن المراكز الدينية في حواضر يهوذا، تنوعت شعائر أهل الريف؛ مما يؤكد عدم وجود ديانة مركزية واحدة في هيكل أورشاليم. ووجود المقامات أو المرتفعات ( وهي خلوات دينية) في كل مكان في يهوذا في عصر المملكة "يدل على أن هذه المظاهر ليست انحرافا طارئا عن الدين القويم التوراتي، بل استمرار لتقاليد أصلية ومعرقة في القدم لسكان المناطق الهضبية الفلسطسينيين".

وماذا عن هيكل سليمان المزعوم؟ لا يتوفر دليل آركيولوجي واحد يدل على أن مثل هذا المعبد أقيم في عصر مملكة يهوذا، ولا قبلها مما يسمى المملكة الموحدة، التي لم تقم أصلا, وكل الآثار غير الإسلامية المتبقية على جبل الهيكل هي من بقايا هيكل الملك هيرود الذي بني أواخر القرن الأول قبل الميلاد. "لقد صار في حكم المؤكد لدينا الآن أن الهيكل الموصوف في سفر الملوك الأول المفرد ببنائه للملك سليمان ، إن هو إلا من ابتكار خيال المحرر التوراتي..." لكن لا يمكن نفي وجود هيكل نفيا تاما اعتمادا على شواهد سلبية. فعاصمة مثل أورشاليم، في القرن اسابع قبل الميلاد، ربما كانت في حاجة إلى مثل الهيكل الموصوف, وكان ملوكها قادرين على تمويل مثل هذا المشروع. وربما بني على مراحل، ابتداء من حكم الملك آحاز في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد إلى حكم الملك منسي، في أواسط القرن السابع. وقد لا يكون هذا الهيكل مكرسا لعبادة يهوه التوراتي، بل لعبادة يهوه الفلسطسيني التقليدي، بجانب آلهة أخرى. ومثل هذا الهيكل لم يكن فريدا بأورشاليم؛ فالتنقيبات في سورية أماطت اللثام عن 20 معبدا مماثلا في الآلاخ وعين دارا وكركميش وحصور ومجدو وشكيم وبيت شان وغيرها.

وخلاصة القول، إن دولة يهوذا ولدت وعاشت دولة فلسطينية كنعانية في تكوينها الإثني والديني. وتاريخها جزء عضوي من تاريخ فلسطين. ولا توجد علاقة بين النصوص التوراتية ، والتاريخ الحقيقي لفلسطين.

تفسيرات أخرى

ربما من المناسب أن نذكر اجتهادات أخرى لموقع أورشاليم، وبخاصة اجتهاد الدكتور كمال الصليبي والدكتور زياد منى والدكتور أحمد داوود. والثلاثة ينطلقون من تفسيرات لغوية ، مع مقاربة جغرافية، اعتمادا على ما توصلوا إليه في كتب أخرى من أن "التوراة جاءت من جزيرة العرب"؛ بل ومن المنطقة الجنوبية الغربية منها. فالصليبي يجعل من أورشاليم بلدين في غرب عسير، هما "أوري" و "آل سلام"قرب التنومة جنوب مدينة النماص. أما بيت لحم فهي عنده قرية "أم لحم" في وادي إضم. على أن المسافة بين قريتي أوري وآل سلام ، وقرية أم لحم حوالي 250 كيلو مترا، ويتابعه د.منى.

ولا نقبل هذا الاجتهاد. إذ نقرأ في النص إينو 190 EANO ، وهو رسالة من حاكم أورشاليم إلى ملك وادي النيل، من مجموعة رسائل تل العمارنة، التي أشرنا إليها سابقا، ما يلي: "إلى الملك مولاي؛ هكذا يقول خادمك عبدي هبا. انظر إلى ما فعله ملك إيلو Milkiilu وشوارداتا Shuwardata  بأراضي الملك مولاي. لقد دفعوا بقوات من جازر Gezer ومن جت Gath ومن كيله Keilah. وأخذا أراضي روبوتو Rubutu ، وأراضي الملك سلمت إلى شعب العابيرو, حتى بلدة في أراضي أورشاليم من أملاك سيدي اسمها "بيت لحم"Bit-lahm  قد أعطيت إلى كيله. فليصنع مليكي إلى خادمه عبدي هبا ، ويرسل قوات تعيد الأراضي  الملكية إلى الملك. وإذا لم تصل القوات، فإن أراضي الملك تؤول للعابيرو".

يشير هذا النص إلى عدة مواقع، عرف بعضها، وأخرى لم تحدد مثل كيله وروبوتو. أما جزر وجت وجازر فهي مدن كنعانية معروفة في فلسطين. كما ورد اسم بيت لحم لأول مرة في السجلات، على أنها من من توابع أورشاليم. مما يجعل من اجتهاد الصليبي بعيدا جدا عن القبول به.

وتفسير د. أحمد داوود يوافق الصليبي في موقع أورشاليم في غرب الجزيرة, ويخالفه في الاجتهاد. فعنده ، أصل أورشاليم من "حور أشليم"، ويعني كهف المتعبدين. ويحاول عضد اجتهاده بنص من نبوءة حزقيال, لينفي وجود أورشاليم في فلسطين.

ما بعد السبي

سقطت مدينة بابل بيد الفرس سنة 539 ق.م. وسمح الحاكم الفارسي لمن سباهم الكلدان أن يعودوا إلى أوطانهم. فعادت جماعات من سبي يهوذا بقيادة زربابل إلى فلسطين، وبخاصة منطقة يهوذا. وتطورت ديانتهم إلى ما يسمى الديانة اليهودية. وبدأت هذه الديانة في الانتشار بين الجماعات والقبائل حولهم. وكانت اللغة الآرامية قد انتشرت في العراق والجزيرة العربية وبلاد الشام؛ وحلت محل الأكادية، وما يمكن تسميته باللسان العبري. وسرعان ما صار لليهود (وهو الاسم الجديد لهذه الأقوام) وجود كثيف في ذلك الجزء من فلسطسين. وصار اليونان والرومان ومن بعدهم يطلقون اسم اليهودية على هذا الجزء من فلسطين. والمصدر الرئيس لسجل هذه الأحداث هو أسفار العهد القديم، وبخاصة سفر عزرا. ونقبله بكثير من التحفظ. لأنه كما كتب المؤرخ اليهودي (رئيس جامعة براندايس سابقا) أبراهام ساخر، "إن التمحيص الأخير قد ألقى ظلالا قوية من الشك على صدقها. فهي لم تكتب قبل 300 ق.م. وربما بعد ذلك بمدة طويلة. وكان المؤلفون بعيدين أكثر من 250 سنة عن الأحداث". وتدعي هذه الأسفار أن قورش أصدر مرسوما بتحرير اليهود من السبي, لأن رب السماء أوصاه "أن يبني بيتا في أورشاليم التي في يهوذا" (عزرا 1:2). ويذكر في الإصحاح السادس من هذا السفر أن داريوس هو الذي نفذ هذه الوصية.

وجدوا أن اورشاليم خراب، مهدمة الأسوار، محترقة البنيان. ولغياب سلطة مركزية تولى الكهنة الزمام، وهم من سلالة الصدوقيين الكهنوتية القديمة. واتسعت سلطاتهم. وصارت الشريعة الموسوية معيارا للسلوك العام. وفي هذه المرحلة تم تدوين أسفار العهد القديم. لم يكن هذا التدوين وحيا أو روايات موثقة، تناقلها عدول عن عدول. بل يقول الدكتور أبراهام ساخر في ذلك: "التمحيص الصبور لأسفار العهد القديم الأولى، أوضح أنها من صنع أياد، كتبت في فترات مختلفة ، ولأهداف متنوعة. بعضهم قص القصص كما تناقلها سماعا؛ وآخرون أضافوا إلى أساطيرهم  أخلاقيات مهمة. وكثيرون ممن أذلتهم التجارب من السبي المعاصرة لقومهم، عادوا إلى الماضي مغيرين، ممجدين، صابين الآمال المحبطة، والأشواق الضائعة للسلام والدعة في الشخصيات القديمة، الآباء، أولئك الأشخاص الأسطوريين الذين عاشوا حيوات سامية".

عاد السبي إلى ذلك الجزء من فلسطين الذي غادره الآباء؛ وبعضهم وصل إلى جزيرة فيلون في صعيد مصر. وكانت مصر تحت الحكم الفارسي. وكثير من هؤلاء الأحفاد نسوا أرض الأجداد، بعد أن صارت لهم مساكن ومعايش وأصدقاء في أرض بابل. وكان لبعضهم مناصب لم يؤثرا أن يهجروها. وكما يقول ساخر: "فقط، عدة آلاف من المتعصبين المتحمسين كان بإمكانهم أن يقتلعوا جذورهم من بنية كهذه، ويسافروا شهورا عبر فياف حارقة إلى أرض قد تغلب عليها الأعداء". تجمع هؤلاء في منطقة أورشاليم. وبدأوا ينسجون لأنفسهم تاريخا ماجدا، ليكون لهم بعد تاريخي ديني قوي. وادعوا مملكة متحدة سابقة في أورشاليم، وأنه كان لهم هيكل عظيم بداخله تابوت العهد، الذي ضاع إلى الأبد. ومحيطهم السياسي كان في امبراطورية الفرس المتسامحة، وممالك ضعيفة في أرض النيل وسورية. ولا تقدم المصادر التاريخية شيئا ذا بال عن تاريخ اليهود في المدة 516 إلى 445 ق.م. وحتى المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوتس الذي عاش في هذه الفترة، وطاف تلك المنطقة، وسجل الكثير من أحداثها وأوصافها، لم يشر ولو بكلمة واحدة إلى اليهود في جنوب سورية، بل تحدث عن السوريين.

على أي حال، نجد في سفر نحميا أن أن زربابل أعاد بناء هيكل في أورشاليم. ونعمت الناس بشيء من الأمن، وظهر النبي عزرا الذي يعتبر ثاني أهم شخصية دينية في حياة اليهود بعد موسى. وبدأ عصر تدوين الأسفار، والتلمود. ثم انشغلت دولة الفرس بحروبها مع الإغريق. وفي النصف الأخير من القرن الرابع قبل الميلاد، اكتسح الإسكندر المقدوني العالم القديم، وقضى على الدولة الفارسية. لكنه مات فجأة دون وريث سنة 334 ق.م. وانقسمت امبراطوريته بين ثلاثة جنرالات. فقامت دولة البطالسة في مصر، ودولة السلوقيين في سورية وأجزاء من شمال العراق. وأخضعت الشعوب للتأثر الحضاري الجديد ذي الغلبة الإغريقية، وسميت الحضارة الهلينية. وبدأ صراع هليني يهودي عند اليهود وقياداتهم. وفي سنة 175 ق.م. اعتلى العرش السلوقي انطيوخوس الرابع، وكان طاغية مستبدا، محبا للحضارة الهلينية بكل ما فيها. فنهب كنوز الهيكل سنة 169 ق.م. ثم هدم سور أورشاليم في السنة التالية. وبنى قلعة لقواته. وأصدر أوامره التي جعلت من التقيد بتعاليم التوراة جريمة يعاقب عليها بالموت. ونتيجة لهذا الإضطهاد والإذلال قامت ثورة المكابيين، ونجحت. ثم أصدر هذا الملك عفوا عاما سنة 164 ق.م. خلده اليهود بعيد حانوكاه (الأنوار). لكن عبادة الآلهة الهلينية كانت غالبة. ثم حكم أورشاليم الحشمونيون.

واعتلى العرش سنة 134 ق.م. جون هركانوس؛ وهو من دمر هيكل السامرة؛ وأرغم الأدوميين على اعتناق اليهودية. وتوسعت أورشاليم. وبعد وفاته دخلت المنطقة اليهودية في صراع على السلطة. وازداد الانقسام بين الملوك – الكهان والحزب الديني (الفريسيين). وغذت الصراع إمارات الجوار. وناشدت أطراف من الحكام اليهود دولة روما للتدخل. فجاء بومبي سنة 63 ق.م. وكان هذا بدء السيطرة الرومانية على المنطقة.

في بداية العهد الروماني تحول الملك اليهودي إلى خارج الأسرة الحشمونية، إلى رجل أدومي، اسمه اليوناني هيرودس (ربما حرد بالعربية). فقد عين يوليوس قيصر سنة 48 ق.م. انتباتر حاكما على أورشاليم، وابنه هيرودس حاكما على الجليل. ولم تعمر ترتيبات قيصر بعد اغتياله سنة 44 ق.م. وجاء البارثيون، ورحب بهم الحشمونيون؛ وهرب هيرودس إلى بترا فمصر ثم إلى رومة. وهناك أعلنه مجلس الشيوخ ملكا على اليهودية. واستطاع أن يوطد حكمه. ولم يهتم بالأمور الدينية، على أنه بنى هياكل مكرسة للآلهة اليونانية والرومانية. وبعد حدوث مجاعة سنة 25،24 ق.م. أقام مشاريع عامة لإشغال الناس. فبنى أبراج السور وخنادق ومد بعض الشوارع، وقصرا له، ومسرحا وميدانا للخيل. وليزيل شك اليهود في ديانته, بنى هيكلا عظيما سنة 17 ق.م. كان ضعف هيكل زربابل مساحة. وهذا هو الهيكل الذي دمره تيطس الروماني سنة 70 م عندما اقتحم المدينة وطرد منها اليهود. ثم ثار اليهود على دولة رومة سنة 131 م بقيادة باركوخبا. عندها، قضى الرومان على الوجود اليهودي نهائيا فيها، وهدمها الامبراطور هدريان، وأنشأ مدينة جديدة سماها إيليا كابيتوليا. ثم تناقص عدد اليهود في فلسطين. وبعد تحول الامبراطورية الرومانية إلى النصرانية أيام الامبراطور قسطنطين (325 م)، ظلت السياسة على منع اليهود من سكنى أورشاليم. وننوه بنص العهدة العمرية، وهي معاهدة تسليم إيلياء للخليفة عمر بن الخطاب سنة 636 م (15 هـ) التي تنص على عدم سكنى اليهود في المدينة.

"إن نسيتك يا أورشاليم تنسى يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك، إن لم أفضل أورشاليم على أعظم فرحي" (مزامير 137:5-6). هكذا أكد اليهود تعلقهم بأورشاليم عبر العصور. ويجب أن يكون هذا قسم المسلمين بعامة والعرب بخاصة. "إن نسيتك يا قدس تنسى يميني. ليلتصق لساني بحنكي إن لم أذكرك, إن لم أفضلك يا قدس على أعظم أفراحي".

أمل

معلقا في جريدة "بروفيدانس جورنال" في شهر حزيران سنة 1969، معلقا على مقالة كتبها يهودي أمريكي، كتبت رسالة ختمتها بالعبارة "إن كان اليهود صبروا ألفي عام، وهم على باطل، فنحن أمة عظيمة، يمكن أن نصبر قرونا لنسترجع حقنا".

ملاحظة

هذه المقالة مستخلصة من كتاب لي "بنو إسرائيل: الضلالات والحقيقة". جاهز للنشر، كما أجيز من دائرة المطبوعات.


Tel +962795310901

No comments: