Monday 28 January 2013

بين السماء والأرض هوة


بين الأرض والسماء هوة

                                                                              الدكتور عبد المجيد نصير

                                                                              مجمع اللغة العربية الأردني

يمكن أن أصنف العلم نوعين: علم اليقين وعلم الظن. وعلم اليقين هو العلم الذي مصدره الوحي عند من يؤمن بذلك. ويمتاز النص الموحى به بأنه يقيني لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ويختلف المؤمنون به في التفسير أو التأويل.

وعلم الظن ثلاثة أنواع. نوع يأتي عن طريق التجربة (العلمية) التي لها شروطها ومكوناتها ودلالاتها. وهذا العلم يصل إلى قواعد عامة مبنية على الاستنتاج من بينات محدودة العدد، ويجري تعديل الفرضيات أو إبطالها بناء على تجارب أخرى أو أمثلة تنقضها، أو إلى يماثل. ولذلك فهذا العلم تطبيقي عملي ونظري، يتفاعل أحدهما مع الآخر. والعلوم الدقيقة مثل الكيمياء والفيزياء والعلوم الطبية أمثلة على ذلك. والثاني يأتي من الـتأمل أو الملاحظة أو التجربة غير المقيدة بأصولها المنهجية. وعلوم الفلسفة والاجتماع والاقتصاد وغيرها مما يدخل في هذا النوع. وتبقى العلوم الرياضية مختلفة عنهما. فمن ناحية هي علم بمعنى أنها لا تقبل إلا ما ثبت برهانه بالأساليب الصارمة المقبولة لدى أهل هذا العلم. وهي أيضا، فن بما فيها من تناسق وجمال وتجريد، ذات مسحة فنية؛ مجالها الفكر، وعالمها العقل، وميزتها التجريد، ومعمارها بنية افتراضية.

وتمتاز الرياضيات بأنها جسر يربط بين الجزء النظري والجزء العملي من علوم التجربة. فقد تؤدي التجارب إلى فرضية تصاغ على هيئة نموذج رياضي (معادلة أو معادلات، متباينة أو متباينات، . . .). ويجري فحص هذا النموذج ليعرف مقدار دقته وتطابقه مع الحالات المعروفة أو المكتشفة.  ويكون النموذج الرياضي الصياغة الأدق والأعم للفرضية العلمية. وتكمن أهميته في إمكان تطبيقه في كل الحالات المشابهة. وعادة ما يعطي الجواب الدقيق. وكثيرا، ما يسبق النموذج الرياضي الواقع الناتج من التجربة أو الاكتشاف، بل يكون دليل العلماء إلى المستقبل. وآخر ما نستشهد به هو اكتشاف بوزون هجز Higgs Boson في سنة 2012 من قبل علماء سيرن (المركز الأوربي للبحوث)، علما بأن الفيزيائي هجز، مع زملائه، كان تنبأ به سنة 1964.

عنوان هذه المقالة هو جزء من عبارة تلفظ بها خطيب الجمعة (ع. ط.) في درسه قبل الصلاة في مسجد موسى بن نصير (غرب الحصن). إذ قال: "توجد هوة بين السماء والأرض لو وضعت فيها الشمس لكانت مثل إبرة. . . ". وأجابني أن مصدر معلومته هو من التلفاز. وما هي السماء التي يعنيها بقوله هذا، فهو لا يعرف. وهذا دفعني لأن أعطي درسا في المسجد بعد صلاة المغرب أمزج فيه بين الديني (اليقيني) والعلمي.

سأبدا بالآيات القرآنية المتعلقة بالخلق.

"لخلق السماوات والأرض أكبر الناس، ولكن أكثر الناس لا يعلمون" (غافر 27).

"ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم" (الكهف 51).

"إن ربك الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام" (يونس 3).

"هو الذي خلق لكم ما الأرض جميعا، ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، وهو بكل شيء عليم" (البقرة 29).

"قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا، ذلك رب العالمين. وجعل فيها رواسي من فوقها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين. ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض إئتيا طوعا أو كرها، قالتا أتينا طائعين. فقضاهن سبع سماوات في يومين، وأوحى في كل سماء أمرها؛ وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا، ذلك تقدير العزيز العليم" (فصلت 9-12).

"والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون" (الذاريات 47)

"أو لم يرَ الذين كفروا أن السماوات والأرض كانت رتقا ففتقناهما" (الأنبياء).

"الذي خلق سبع سماوات طباقا، ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" (تبارك 3).

"الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن" (الطلاق 12).

" أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعيَ بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى؟ بلى إنه على كل شيء قدير. (الأحقاف 33).

"أفعيينا بالخلق الأول؟ بل هم في لبس من خلق جديد" (ق 15).

"وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون" (الذاريات 56)

" تسبح له السماوات والأرض، وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم" (الإسراء 44).

"أو لم يروا إلى ما خلق الله يتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل سجدا وهم داخرون. ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة وهم لا يستكبرون" (النحل 48،49).

"ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال" (الرعد 15).

"الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلا" (آل عمران 191).

"أفحسبتم أما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون؟" (المؤمنون 115).

"وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا، ذلك ظن الذين كفروا" (ص 27).

"وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد" (ابراهيم 8).

"إن تكفروا فإن الله غني عنكم" (الزمر 7).

"لا يسأل عما يفعل وهم يُسألون" (الأنبياء 23).

"وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون" (الجاثية 13).

نتم ومن في الأرض جميعا

 

هذه إشارات حول خلق السماوات والأرض، إشارات وحي إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهي بذلك ليست فرضيات علمية، نتجت عن ملاحظات أو مشاهدات أو تجارب. ويبقى فهمها وربطها بعضها ببعض فكرا بشريا، يهتدي بما يقبله العلم الحالي، وبخاصة علوم الفيزياء والفلك.

بداية، نعرف أن خلق السماوات والأرض، وما فيهن من تناسق وتكامل، ومخلوقات نعرف منها القليل، هو أكبر من خلق الإنسان، على ما في خلقه من معجزات، لا يزال أهل العلم يكتشفون منها. ثم نأتي إلى ما عند البشر من فرضيات حول خلق الإنسان وخلق الكون الذي نعرفه. وهؤلاء العلماء (!)، منذ أن نبذوا قضية الخلق الإلهي للكون والإنسان لا يزالون يتخبطون في فرضياتهم، ودلالات اكتشافاتهم في الأرض أو في عالم النجوم والمجرات وتوابعها. والآية الكريمة (الكهف) توضح أن كل ما يقوم به هؤلاء العلماء (إلى يوم الدين) لن يكون صحيحا، بل هو ظن لن يقارب الحقيقة. وكيف نعرف الحقيقة في خلق الكون أو خلق الإنسان؟ الجواب بسيط: إما أن تكون أنت الخالق، أو تكون شاهدا على الخلق، أو يخبرك بالخلق رسول تثق في خبره ثقة تامة. وأي من هذه الأمور الثلاثة لا تنطبق على علماء البشر في أي زمان. ولا يدعي أحد من أهل العلم أنه خلق البشر لو خلق حبة تراب؛ ولا أنه كان شاهدا على الخلق الأول؛ وهو لا يقبل كلام رسل الله حول هذا الخلق. فلم يبق من دعاويهم إلا الظن، وإن الظن لا يغني من الحق شيئا.

بالنسبة إلى خلق الإنسان فعلماء السلالات والأحياء لا يزالون يتخبطون منذ فرضيات داروين، وبل وما قبله. وكلما وجدوا بقية عظام من جمجمة لها علاقة بالجمجمة البشرية، أو بقية عظام أخرى مقاربة، فرحوا لها فرحا شديدا، وعدلوا فرضياتهم بالتطور من حال إلى أخرى، (ولا أقول الخلق). ولا يزالون في هذا التخبط، وسيظلون.

يخبرنا القرآن الكريم عن خلق الإنسان بإيجاز مفيد دقيق: "ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلاقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما. ثم انشأناه خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين" (المؤمنون 12-14). ويقول علماء الأحياء إن تطور الجنين المذكور في الآيات السابقة تنطبق على الثدييات. على أن هذه الآيات تؤكد "ثم انشأناه خلقا آخر". كما وجد محللو الجينات أن تميز الإنسان في الجينومات هو في عدد قليل منها نسبيا (3000). مما يعني وجود علاقة بين المخلوقات الحية ، وهي علاقة مقصودة، ولم توجد عفويا أو بالصدفة، أو باختيار عشوائي. وتفسير وجود الإنسان بالتطور وباختيار الأصلح أو الأقوى أو أي ميزان آخر، إنما محاولة بشرية لتفسير هذا الوجود، وليست أكثر من ذلك. ولا يجب أن تُحمّل أكثر مما تحمل. ومهما كان هذا التفسير على درجة من الصواب (وهو ليس الجواب النهائي غير القابل للنقض حتى عند علماء الأحياء والسلالات)، فإنه يبقى كذلك.

نأتي إلى خلق الكون. فعلماء الفيزياء والفلك يقبلون فرضية الانفجار الأعظم، الذي يقدر حدوثه قبل 13.7 بليون سنة ضوئية (السنة الضوئية حوالي عشر مليون مليون كم). وبدأ من نواة صارت تتشققق عن نويات أخرى في مدة أجزاء صغيرة من الثانية، ثم زادت هذه الأجزاء وصارت سديما فنجوما فمجرات وغير ذلك. إلا أن هؤلاء العلماء (!) لا يفسرون لنا من أين أتت النواة الأولى، وأين كانت، ولماذا سارت في هذا المسير، ولم تجْرِ في طريق آخر؛ إلى كثير من الأسئلة التي لا يملكون لها جوابا. والسؤال الأهم لماذا كان هذا الكون؟ ولماذا كل هذه النجوم والمجرات والسدم والمادة السوداء وغيرها؟ هل هذا عبث؟ ومن هو الذي يعبث؟ ولماذا العبث؟ إن الإنسان (العاقل) يلهو ويعبث، ولكن عبثه مقصود. ألهذا الوجود ككل غاية؟ ألأجزائه ومفرداته، بما فيها الإنسان، غاية؟ إن كان كذلك، من أنشأ هذه الغاية؟ ولماذا؟

نأتي إلى السماوات والأرض في القرآن. يوضح القرآن أولا عظمة الخلق سواء أكان ذلك للإنسان أو للسماوات والأرض. وهي عظمة لا يستطيع الإنسان أن يتصرف إزاءها إلا بالإعجاب على الأقل. ويستطيع الإنسان أن يستكشف بعض سننها ويفهمها، بل ويسخر بعضها لمصالحه (ويعلمنا القرآن في آية سورة الجاثية أن هذا التسخير مقصود من قبل الخالق). وخلق السماوات والأرض حصل قبل خلق الإنسان. ومن ثَمّ لا يخضع اكتشاف الخلق لأي تجارب بشرية كائنا ما كانت تساعد على اكتشافه. وهو بذلك يستعصي على التفسير الصحيح. والإنسان مخلوق من هذه المخلوقات التي لا نعرف عددها وإحصاءها، ومع ذلك يحاول أن يفسر وجودها! أليس ذلك بأشبه من برغي في عجل طيارة يحاول أن يفهم كل الطيارة بأجزائها، وعلاقاتها فيما بينها، وركابها، وقيادتها، والغاية من وجودها ككل، ووجودها في تلك اللحظة، وغير ذلك! أليس هذا العنجهية والجهالة الجهلاء؟

الكون وما فيه مخلوق لغاية، هي عبادة الخالق. وعبادة كل جزء لها كيفيات مخصوصة، بعضها نطبقه كبشر، وأكثر عبادات المخلوقات الأخرى هي مما لا نعرفه (ولكن لا تفقهون تسبيحهم). ولكن على خلاف الإنسان الذي يخترع شيئا أو يوجده لحاجته إليه أو للاستفادة منها لأسباب الحاجة المادية أو المعنوية؛  فإن الله غني عن عباده ومخلوقاته، وهذا مما يليق به، بما تفرد من من صفات. وعلى خلاف الإنسان الذي هو عرضة للمساءلة من قبل غيره حول ما يقوم به، حتى لو كان خاصا به، فإن الله الخالق لا يسأل عما يفعل. فهو فوق المساءلة، وهذا مما يليق به ويتفرد. وهذه صفة أجد أنها أعظم ما يميز الخالق عن مخلوقاته. وهذه الصفة تستدعي وحدانيته. إذ لوكان في السماوات والأرض آلهة أخرى لكانوا في إحدى حالين: إما أن يكونوا متساوين في الصفات والامتيازات والقدرات، أو أن يكونوا طبقات. في الحالة الأولى تظهر المنافسات والمناكدات والكيد وغير ذلك. وعندئذ يفسد الوجود بسرعة. وهذا مما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: "لو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون" (الأنبياء 22). وسيعم الفساد في الكون في الحال الثانية أيضا، لاشتباك الصلاحيات، وميل بعض الآلهة إلى العصيان. وقد عبرت عن ذلك الأديان البشرية كما في ملحمة جلجاميش، أو أساطير الإغريق وغيرهم.

ونفهم من آيات الخلق، أن الحال التي سبقت خلق السماوات والأرض كانت حالة دخان. ولا نعرف حالة الدخان المذكورة. ولكنها حالة جنينية للسماوات. وماذا كان يسبق الدخان، وأسئلة أخرى حوله؟ لا نعلم. وما معنى خلق الأرض في يومين؟ وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام؟ هل اليومان داخلان في الأيام الأربعة، أم يضافان إليها؛ أي أن خلق الأرض وإعدادها للحياة كان في ستة أيام! ثم استوى إلى السماء، فهل يبدأ الفاصل الزمني (ثم تفيد التراخي) من حالة الدخان؟ والأغلب أن هذه الأيام حقب أو مراحل، لا نعرف تقديرها الزمني بمقاييسنا التي نستعملها. وهل وصل خلق السماوات والأرض حالته القصوى، أم لا تزال عملية الخلق سائرة؟ لا نعلم. وماذا عنا افترضه علماء الفيزياء والفلك من المادة السوداء والطاقة السوداء والثقوب السوداء؟

ثم إن السماوات السبع طباق، طبقات بعضها فوق بعض؛ وتتميز السماء الدنيا بالمصابيح، وهي النجوم على الأرجح. فهل السماوات الست الأخرى ليست ذوات نجوم؟ وبما أننا اكتشفنا هذا الكون (السماء الدنيا!) بما فيه من أجرام عن طريق المراقيب البصرية أو الراديوية، فهل غياب النجوم عن السماوات الأخرى يعني أن البشر لن يكتشفوها؟ ثم إن آية سورة الطلاق تخبر عن خلق سبع أرضين، دون أن يذكر أنها طباق، فهل يعني هذا أنها سبع أرضين منفصلة، مستقلة بعضها عن بعض، وأين هي؟ أسئلة لا نحير لها جوابا!

أخيرا، نجد أن العلم اليقيني كالعلم البشري، يثير من الأسئلة أكثر مما يقدم من الأجوبة. وإذا كنا قادرين على أن نجد بعض الأجوبة من العلم البشري، فلا يزيدنا ذلك اطمئنانا، لأن العلم الظني لا يغني عن العلم اليقيني. وهما كالزيت والماء؛ يمكن وضعهما في إناء واحد، ولكن سيبقى الزيت زيتا والماء ماء. ويوضح القرآن أن الغاية من العلم بنوعيه هو الوصول إلى الحق والإيمان به والثبات عليه. والغاية النهائية هي الله عز وجل وعبادته. "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق" (فصلت 53).

No comments: