Monday 28 January 2013

توحيد المصطلح: مشكلة أم معضلة


 

توحيد المصطلح : مشكلة أم معضلة ؟

 

الأستاذ الدكتور عبد المجيد نصير

مجمع اللغة العربية الأردني

أستاذ الرياضيات

جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

 

ملخص

لا تزال قضية توحيد المصطلح العربي ، وبخاصة مقابل المصطلح الإنجليزي أو الفرنسي ، قضية أساسية يتناولها الباحثون ، وتقدم فيها المحاضرات ، وتدبج فيها المقالات ، بل وتعقد لها المؤتمرات كما في هذا المؤتمر . والواضح أن أزمة التوحيد تتفاقم بعد أكثر من قرنين على المواجهة منذ أيام محمد علي حاكم مصر . ولم تنفع كثرة المجامع اللغوية أو تعدد الجهات التي تصدت للأزمة في حلها. وقد تعقدت بدخول عوامل أخرى لا علاقة لها باللغة أو المصطلح .

يتناول هذا البحث هذه القضية ، ويبدأ بعرض تاريخي ، متسلسل من أيام العباسيين إلى أيامنا ، مع ذكر ما وضع من آليات ، وبعض ما تحقق من إنجازات . ويحلل القضية ليرى هل هي مشكلة قابلة للحل ، أم معضلة تستعصي عليه؟ ويقدم أفكارا حتى لا تبقى عقبة كأداء لعملية وضع المصطلح أو لعملية تعريب التعليم .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

مقدمة

تلاقي الثقافات ، أو ما سمي المثاقفة ، يؤدي إلى أن تأخذ ثقافة عن أخرى قليلا أو كثيرا . ولكل ثقافة إطارها الذي تتميز به ، وبخاصة في الحروف والكلمات والمعاني ، وتركيب الكلام . وقد كان ذلك واضحا في الحضارة الإسلامية عندما واجهت الثقافات الأخرى وإنتاجاتها العلمية وغيرها، بل وأساليبها في المدنية والإدارة وما رافق ذلك من ألفاظ  ومصطلحات.  وقديما كتب ابن وهب الكاتب " وكل من اخترع علما ، أو استنبط شيئا، وأراد أن يضع له اسما من عنده ، ويواطئ عليه من يخرجه إليه، فله أن يفعل ذلك ". (1) وبما أن الترجمات شملت ميادين مختلفة كالفلسفة والمنطق والأدب والعلوم بفروعها ، وكل معرفة لها مصطلحاتها وألفاظها الخاصة ، ولم تكن في العربية مصطلحات جاهزة تقابل المصطلحات الأعجمية ، كان على المترجمين أن يسلكوا طرقا عدة لحل هذه المشكلة ، لخصها الفارابي  بما يلي :

" 1- إما أن تخترع الأمة المستقبلة ألفاظا من حروفها .

  2- وإما أن يشرك بينها وبين معان أخرى ، كيف اتفقت ، في العبارة .

  3- وإما أن يعبر عنها بألفاظ الأمة الأولى بعد أن يغير تغييرا يسهل على الأمة الثانية النطق بها . ويكون هذا المعنى غريبا جدا عند الأمة الثانية ." (2)

وقد أبدع العلماء والمترجمون ، فأورثوا لنا ثروة من المصطلحات ، لا نزال نستعمل كثيرا منها . وكتب الجاحظ : " ولأن كبار المتكلمين ورؤساء النظارين كانوا فوق أكثر الخطباء ، وأبلغ من كثير من البلغاء ، فهم تخيروا تلك الألفاظ لتلك المعاني ، وهم اشتقوا لها من لسان العرب تلك الأسماء ، وهم اصطلحوا على تسمية ما لم يكن له في لغة العرب اسم ، فصاروا بذلك سلفا لكل خلف ، وقدوة لكل تابع . ولذلك قالوا : العرض ، والجوهر ، وأيس ، وليس ، وفرقوا بين البطلان والتلاشي ، وذكروا الهذية  والهـُوية والماهية وأشبه ذلك . وكما وضع الخليل بن أحمد لأوزان القصيد وقصار الأرجاز ألقابا لم تكن العرب تتعارف تلك الأعاريض بتلك الألقاب ، وتلك الأوزان بتلك الأسماء . كما ذكر الطويل والبسيط .. وكما سمى النحويون فذكوا الحال والظرف ، وما أشبه ذلك ... وكذلك أصحاب الحساب قد اجتلبوا أسماء جعلوها علامات للتفاهم " ( 3)  

وما أشبه الليلة بالبارحة . فعندما أفاقت العربية على العلوم والمعارف الأوربية في بداية القرن العشرين ، وجدوا أمامهم كما هائلا من المصطلحات باللغات الأوربية في مختلف المعارف ،

 

 

وبخاصة العلوم النظرية والتطبيقية . وكانت المعالجة الجديدة قربة من المعالجة الأولى ، إلا أن المحدثين كان عندهم ثروة تراثية أفادوا منها . إلا أننا نذكر بأمور متعلقة بالموضوع هي :

1- المعين المتجدد الذي لا ينضب من المصطلحات الأجنبية ، على خلاف ما واجهه الأقدمون من معارف قد انتهت في الزمان من قبل أهليها . وبخاصة ،أن أمتنا فقدت شرف المساهمة الأصيلة في العلوم وكثير من المعارف، وبهذا فقدنا حق المشاركة الفاعلة في صك المصطلحات . وعدنا إلى المستوى الأدنى ، وهو وضع المقابلات .

2- إن لغة العلوم تكاد تكون عالمية ، بغض النظر عن اللغة القومية التي تقدم بها ، وبخاصة أن المصطلحات والرموز في اللغات الأوربية كانت متقاربة. على خلاف المصطلحات الأدبية وموضوعات المعارف الإنسانية التي تتأثر كثيرا بالإطار الثقافي والحضاري الذي نشأت به وتفاعلت معه . وتركيبة اللغة العربية وحروفها مختلفة تماما عن الأوربية ، ولذلك يكون الأخذ عن الأخيرة على سبيل تعريب اللفظ الأجنبي ، أقل ما يمكن .

3- في العصر العباسي ، كانت بداية النهضة العلمية والمعرفية العملاقة للحضارة الإسلامية ، التي بدأت بالإنتاج والإبداع بعد وقت قصير من الترجمة ، حتى صارت هي الحضارة الغالبة بل الوحيدة في العالم المعروف . بينما ، وبعد قرنين من المواجهة والترجمة والبعثات بل وشيء من التعاون مع مراكز العلوم والمعارف الغربية ، لا يزال إسهامنا العلمي متواضعا إلى مستوى الصفر تقريبا .

ونلاحظ ، أنه مع وحدة الدولة الإسلامية آنئذ ، أو على الأقل عدم وجود حواجز تمنع الناس من الانتقال والسكنى أينما شاءوا ، فإنه لم توجد في الدولة مؤسسة رسمية أو خاصة ترعى المصطلح : وضعا وتوحيدا ونشرا . ومع ذلك ، نجد قليلا من الاختلاف في المصطلحات بين مشارق الأرض ومغاربها ، على ضعف وسائل النشر ، ومحدودية تقنياته. ولذلك لم تكن قضية توحيد المصطلح مشكلة ، ولا نجد لها ذكرا عندهم ، ومن ثم لم يقترحوا حلولا لها.

على خلاف ذلك ، واجهتنا في النهضة الحديثة ، ولا نزال نواجه مشكلات أساسية متعلقة بالمصطلح العربي . ومع أن منهجية وضع المصطلح صارت قضية محلولة ، تقاربت عليها آراء المجتهدين وقرارات مجامع اللغة العربية ، فإن قضايا توحيد المصطلح واستعماله لا تزال دون حلول فعالة . وسيكون همنا في هذه المقالة النظر في هذه القضية ، وأهميتها ، وتأثيرها على المشكلة الأكبر ، وهي تعريب العلوم والمعارف ، وبخاصة على المستويات الجامعية والبحثية .

 

توحيد المصطلح : البدايات

من الواضح أن قضية توحيد المصطلح محدثة . وكما ذكرنا ، لم تظهر هذه القضية في أيام صعود الحضارة الإسلامية وإبداعاتها أيام العباسيين ، وما بعد ذلك . وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر كان لواء النهضة العلمية تأليفا وترجمة معقودا لمصر ، فلم تظهر هذه القضية . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ظهرت بيروت مركزا آخر مهتما بالتأليف بالعربية والترجمة إليها على المستوى المتقدم ، وذلك عن طريق الكلية السورية الإنجيلية ( الجامعة الأمريكية فيما بعد ) التي تأسست سنة 1866. وكان أكثر المتحمسين للتعريب والتدريس بالعربية أمريكيين مستعربين من أساتذة هذه الكلية . ولكن هذه المسيرة انتكست سنة 1882 بعد احتلال بريطانية لمصر . إذ سرعان ما تحول التدريس في هذه الكلية إلى الإنجليزية . وجاء ذلك بعد تباطؤ حركة النهضة العلمية في مصر تأليفا وترجمة وبعثات إلى أوربة ، وبخاصة بعد القضاء على الأسطول المصري في نافارون سنة 1829 وبعد إخراج المصريين من سورية ، وفرضهم شروطا قاسية على مصر تشمل تصغير الجيش المصري ، مما أصاب محمد علي بحال اكتئاب وفقدان الحماسة . ثم نشأت الجامعة المصرية جامعة خاصة سنة 1908 ، تدرس تخصصات أدبية وإنسانية . وبعد تحويلها إلى جامعة حكومية سنة 1925 ، ثم إنشاء جامعة الإسكندرية ، كانت مصر ترزح تحت احتلال عدو شامل ، أراد أن يعيد تشكيل العقل المصري والثقافة المصرية بعيدين عن العروبة والإسلام . فظهرت دعوات التغريب ، وهجر اللغة العربية الفصيحة ، والاهتمام باللهجة المحكية  ، وهجر الحروف العربية ، والحرب على الشريعة الإسلامية . وظهرت دعوة علي عبد الرزاق في نبذ مؤسسة الخلافة الإسلامية بعيد إعلان إلغائها في موسكو سنة 1924 من قبل كمال أتاتورك. وتعالت أصوات هدم أسس مصادر العربية من بعض المستشرقين ، ووجدت صدى لدى مصريين مثل طه حسين ، في التشكيك في الشعر الجاهلي ، بل وقصص القرآن الكريم .

وزاد الطين بلة ، أن عرب آسية الذين وضعوا بيضهم في سلة البريطانيين ومن ثم الحلفاء ، وجدوا أنهم مع المنتصرين منكسرون، تتقسم بلادهم أمام أعينهم ، بدل أن يشاركوا في جني الغنائم . فقد مزقت ولايات الدولة العثمانية باتفاقية سايكس بيكو ، ووضعت هذه البلاد تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني ، مع الالتزام بإنشاء وطن قومي لليهود . ويشهد التاريخ حركة الترجمة والتعريب النشطة في سورية في بداية الحكومة العربية . فقد ورثت الإدارة العربية إدارة عثمانية بمصطلحات تركية . وحتى كليتا الحقوق والطب في دمشق كانت تدرسان بالتركية . ومن حسن الحظ ، أنه ومع الانتداب الفرنسي بعد معركة ميسلون ( تموز 1920) ، واصل السوريون عملية تعريب منظمة للإدارة والتدريس . وأصروا على أن يكون التدريس لجميع التخصصات في الجامعة السورية          ( جامعة دمشق حاليا ) بالعربية ، مع ما استتبع ذلك من وضع مصلحات ، وترجمة كتب وتأليفها . وتحول هذا العمل إلى عمل مؤسسي مع إنشاء مجمع اللغة العربية في دمشق .  

ثم نشأ  مجمع اللغة العربية في مصر وآخر في العراق في العقد الرابع من القرن العشرين . ونشطت المجامع في وضع المصطلحات بمنهجيات متقاربة . بل إن عددا من العلماء صاروا أعضاء مشتركين في هذه المجامع . ومع ذلك لم تبذل جهود مؤسسية لتوحيد المصطلحات الموضوعة من قبل هذه المجامع .

محاولات التوحيد

الحنين إلى دولة عربية واحدة من المحيط إلى الخليج كان على أشده في النصف الأول من القرن الماضي . والعقبة الكأداء كانت في الاحتلال الأجنبي مباشرة أو باتفاقيات إذعان تعترف باستقلال صوري . وخيل للجماهير أن الاستقلال المنشود بطرد الاحتلال الأجنبي ، ومعاهدات ندية سيجعل طريق الوحدة مفروشا بالرياحين . ومع ذلك ، خافت بريطانية في الحرب العالمية الثانية من ميل العرب إلى المحور النازي ، فكان أن أطلق وزير خارجيتها ( أنطوني إيدن) تصريحه الذي رحبت بريطانية بموجبه بشكل وحدوي للدول العربية . وتلقفت الدول العربية المستقلة (!) السبعة آنئذ هذا التصريح بالقبول ، وظهرت صيغة عربية ضعيفة للوحدة سميت جامعة الدول العربية بميثاق يجعل الاتفاقات الجوهرية الملزمة أمرا مستحيلا . وواجهت هذه الجامعة ، في أول سنيها ، معضلة المعضلات في قضية فلسطين . وفشلت فشلا ذريعا . ثم تنبهت إلى وجوب إنشاء مؤسسات تابعة لها، وبدأت باتفاقية الدفاع العربي المشترك ، ولجنة مقاطعة إسرائيل . وبعد أكثر من عشرين عاما أنشأت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ( اليكسو) على غرار منظمة اليونسكو الدولية . كما أنشأت مكتب تنسيق التعريب في الرباط . وكما يدل اسمه ، فإنه تصدى لتوحيد المصطلحات التي وضعت من جهات متعددة حسب آلية معينة . وبدأ بمصطلحات التعليم العام . ووجد عمله أصداء إيجابية كما أحسست في الأردن في سبعينات القرن الماضي ، وكنت حينها عضوا في الفريق القومي الأردني لتطوير الرياضيات . ولسنا في صدد تقويم هذه المؤسسة ، إلا أن ضوءها خبا ، ثم انقطعت عن الوجود من ناحية عملية على الأقل .

وبعد إنشاء مجمع اللغة العربية الأردني سنة 1976 ، صار هذا المجمع أيضا منتجا للمقابلات العربية للمصطلحات الأجنبية ( الإنجليزية ) . واهتم أولا بتعريب المصطلحات الواردة إليه من مؤسسات رسمية كالجيش والأرصاد الجوية ومؤسسة التدريب المهني . وفي مرحلة مبكرة ، اختار أن يدفع عملية تعريب التدريس الجامعي إلى الأمام بخطوة عملية . فأخذ على عاتقه ترجمة كتب تدريسية مقررة لطلاب السنة الأولى الجامعية في الجامعات الأردنية ( الأردنية واليرموك) ، وطباعتها . وكانت خطوة فريدة ، تمنى المجمع أن تجد التشجيع من الأساتذة وإدارة الجامعتين ، على أنها برهان عملي على مقدرة اللغة العربية العلمية . واستطاع أن يترجم وينشر عددا منها للسنتين الأولى والثانية . وقبل سنوات ، واصل جهده بترجمة كتاب " التشريح " لجراي . إلا أن هذه الخطوة لم تنجح . فلم تجد قبولا عمليا حتى من الأساتذة الذين قبضوا أجور عملهم في الترجمة . وحاربت رئاسة الجامعات تعريب التعليم بصور خفية وعلنية ، على الرغم من أن قانون الجامعات جعل التدريس باللغة العربية هو الأصل ، والتدريس بلغة أخرى استثناء يطبق في أضيق الأحوال بعد تبريره . واتفق وزراء الصحة العرب ومعهم عمداء كليات الطب العربية في مؤتمر بدمشق أواخر القرن الماضي على تعريب الطب كاملا في عشر سنوات . وقد مضت السنوات ، والتعريب لا يتقدم، بل يكاد ينعدم . بل إن بعض التخصصات غير العلمية التي كانت تدرس بالعربية في بعض الجامعات صارت تدرس بالإنجليزية . بلغت الجرأة مع الوقاحة  مجلس العمداء في إحدى الجامعات الأردنية أن أصدر قرارا في تشرين الأول (أكتوبر) 1997 يمنع التدريس بالعربية تحت طائلة العقاب .

على أي حال ، لاقت خطوة مجمع اللغة العربية الأردني التي ذكرناها استحسانا من عدة جهات .  ولكنها لم تتابع داخل الأردن أو خارجه . ولم يجد المجمع التمويل الكافي ليتابع هذا النهج .وساعد في ذلك ، إنشاء اتحاد المجامع العربية من المجامع الأربعة الموجودة آنئذ ( المصري والسوري والعراقي والأردني ). وقد توسع الآن حتى شمل المجامع في البلدان العربية . وأخذ هذا الاتحاد على عاتقه مهمة توحيد المصطلحات ضمن آلية اتفق عليها . وهي آلية تراعي القطرية السياسية العربية . إذ كان لا بد من إرسال مشروع المصطلحات في ميدان ما إلى البلدان العربية بمجامعها وجامعاتها ، وانتظار الردود والاقتراحات ، ثم عقد مؤتمر عام لمناقشة ذلك ثم إقراره . وأخيرا ، نشر هذا المتفق عليه ، وتشجيع أصحاب الشأن على استعماله . وقد عقد مؤتمر لهذا في عمان ، وآخر في دمشق في أواخر القرن الماضي. وما أقر من عشرات الألوف من المصطلحات ألوف تعد على أصابع اليد . ولم تجر دراسة لمعرفة نجاعة هذا الأسلوب . ولم يجر مسح لمعرفة نطاق استعمال هذه المصطلحات ومدى الالتزام بها .

على أي حال ترزح قضية توحيد المصطلح تحت معضلات تكاد تستعصي على الحل . نذكر منها :

1- آليات التوحيد بطيئة جدا . لا تستطيع أن تتعامل بسرعة وفعالية مع مئات الألوف من المقابلات التي أقرتها المجامع المختلفة . علما بأن إنتاج المقابلات عددا وميادين مختلف من مجمع إلى آخر.  وهي أعجز من أن تستطيع التعامل مع المقابلات التي تدفع بها البحوث المختلفة التي تنشر أسبوعيا

أو شهريا أو فصليا في ألوف المجلات المتخصصة . كذلك ، فإن وسائل الإعلام العربية اليومية ، بل اللحظية ، التي تترجم الأخبار بأنواعها ، تحتاج إلى صك مقابلات آنية ، بسرعة . ولا توجد لدى أي مجمع آلية تتابع هذا الإنتاج الخام ، لتهذبها ، وتقدمها على عجل إلى المستعملين ، قبل أن يرسخ استعمال الصيغة الخام ويصير عصيا على التغيير.

2- عدم احترام قرارات المجامع اللغوية فرادى أو باتحادها ، بشكل عام . ومع أن التدريس الجامعي بالعربية كان قرارا سياسيا في عدد من البلدان العربية ( سورية، العراق ، ليبيا ن السودان ) ، فإن ذلك لا يعني الالتزام بقرارات المجمع الوطني أو اتحاد المجامع .

3- ويوازي ذلك تنامي الإحساس بالقطرية ، والانتماء القطري ، والاعتزاز بها ، مع التعصب إلى درجة الإثم ، وعدم قبول المقابلات من بلد آخر ، حتى لو كانت أصح ، أو أن المصطلح المستعمل لم يعد صالحا .

وأضرب مثلين . وضعت ، في البداية ، كلمة نظرية مقابل كلمة Theory, Theorem. والكلمتان الإنجليزيتان مختلفتان في المعنى . لذلك اقترح ( في الأردن) أن تبقى كلمة نظرية مقابل كلمة Theory  وأن توضع كلمة مبرهنة مقابل كلمة  Theorem. وهذا الاختيار يتبع المنهجيات جميعا التي أقرتها المجامع اللغوية العربية . ومع ذلك لا نزال نرى الاستعمال القديم فاشيا ، حتى في الأردن، للسبب المذكور في البند التالي.

والمثل الآخر كلمة  Function في الرياضيات . فقد صك المصريون منذ مدة طويلة كلمة دالة مقابلها . وشاعت . وعندما أدخل الأردن مناهج الرياضيات المعاصرة في المنهاج المدرسي ، لم يستسيغوا كلمة دالة . واستعملوا كلمة اقتران . ومع أني لم أكن متحمسا لها ، فقد قبلتها حتى لا نزيد في الخلاف . وللسوريين مقابل آخر (تابع أو تطبيق ) لأنهم ترجموا عن الفرنسية . ولا يزال الخلاف قائما. وكل حزب بما لديهم فرحون .

4- الجهل واللامبالاة ، وقلة المراجع المناسبة . فكثير من المؤلفين يجهلون ما وضعته المجامع مقابل هذه الكلمة أو تلك ، وقد يكون لها مصطلح قديم يجهله المؤلف أو المترجم . ولا يعرض هذا المؤلف أو المترجم ما كتب على مختص لينفحه ، فتظهر الأخطاء . ونضرب مثلين لذلك . فمترجم الفصل العاشر من "موسوعة تاريخ العلوم الإسلامية " المكتوبة أصلا بغير العربية ، ترجم إلى ( الحساب الإصبعي ) كلمة  Finger Arithmetic، مع أن هذا الحساب قديم واسمه العربي (حساب اليد).

كذلك فإن مؤلفي كتب الرياضيات للصفوف الثانوية في الأردن استعملوا كلمة ( كثير الحدود ) مقابل Polynomial، مع أننا في المجمع هجرنا هذا المقابل منذ مدة طويلة ، واخترنا حدودية . وقد يشفع لهؤلاء ، أحيانا ، عدم وجود المعاجم المختصة على نطاق واسع . ولكن النظر في المكتبات يوضح وجودها ، وتنوعها في الميدان الواحد . والمشكلة أنها ، في الغالب ، جهود أفراد . لذلك تجد فيها اختلافات . وربما المعجم العسكري الموحد ( على ما به وهو قديم ، خضع للمراجعة من قبل المجمع الأردني ) ، والمعجم الطبي الموحد ( وهو جيد) هما المعجمان الوحيدان الموحدان .

توحيد المصطلح ، قضية أم لا؟

بين يدي هذا العنوان ، نثير عدة أسئلة :

1- على سلم من سبع درجات ( مرفوض ، لا بأس ، مقبول ، مستحب ، مرغوب ، مرغوب جدا ، فرض ) ، أين نضع قضية توحيد المصطلح ؟

2- هل هي قضية بسيطة أم عادية أم كبيرة مهمة ؟

3- هل هي قضية خاصة بالمصطلح العربي ، أم عامة في لغات الأرض ؟

4- هل المصطلح موحد حتى على مستوى القطر الواحد ؟

5- هل هي قضية سياسية أم سيادية أم فنية ؟

6- هل يحصل تقدم في القضية أم سكون أم تأخر ؟

7- هل هي قضية قابلة للحل ضمن الظروف التي نعيشها أفرادا ومؤسسات ودولا أم لا ؟

8-  في حال وجود التعطيل ، هل هو مقصود أم لا ؟

9- هل الذهنية العربية  ذهنية كسولة أو لا مبالية تفتش عن أعذار ؟

 نقدم إجابتنا عن هذه الأسئلة ، ولا نلتزم الترتيب ، لوجود تداخل في بعض الإجابات .

لا شك في أن أكثر العرب  ( المهتمين ) يرون توحيد المصطلح العربي فرضا قوميا لأسباب عديدة . وقد أوافقهم في ذلك ، ولكن ليس في هذه المرحلة . فمعركتنا في المصطلح العربي لا تزال معركة وجود وليس معركة تفرد كما نقول في الرياضيات . لأن المشكلة الأهم بعد صك المصطلح هو الاعتراف به من قبل رعيته  أو مجاله التطبيقي ( كما نقول في الرياضيات) . ويعني الاعتراف بالمصطلح استعماله ، حديثا وكتابة وتأليفا. وفي غياب شيوع التعليم الجامعي بالعربية ، سيبقى المصطلح حبيس الرفوف ، وتصير عملية صك المصطلح اعتذارية ، كما في الآية الكريمة " معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون " ( الأعراف 164) . ولذلك اختار درجة ( مستحب ) .

وقد تكون قضية بسيطة لو توفرت النوايا الحسنة والآليات العملية الفعالة . ولكن في الواقع العربي من تشرذم سياسي وتنافر ، وتأثير السياسي ( صاحب القرار الإداري والمالي ) على القرار العلمي أو الفني ، فالمسألة كبيرة مهمة ، لدرجة أنها تحتاج إلى قرار على أعلى مستوى عربي .

وقضية توحيد المصطلح قضية عربية بامتياز . والسبب هو وجود اثنتين وعشرين دولة عربية ، كل منها تدعي أن لغتها الرسمية هي اللغة العربية ، وهي الفصيحة أو السليمة . ولكن لا يوجد نص يلزم أي دولة بالأخذ بمصلحات معينة في الإدارة أو في ألفاظ الحياة العامة أو التعليم بمستوياته . وتبقى عملية الوضع أو الاختيار لكل بلد كما يشاء . أضف إلى ذلك تأثير المستعمر المحتل الذي رحلت جيوشه وبقيت ثقافته وأدواته البشرية والقانونية والمعنوية . بل نجد في بلد كلبنان ، تنازعا بين الأثرين الفرنسي والإنجلوساكسوني . ولذلك قد نجد للمفهوم الواحد عدة ألفاظ تختلف من بلد إلى آخر.  وأرى أن العناية باللغة العربية تنحط مع زيادة عدد الدول الناطقة بها . مثل حال اليتيم الذي وكل أمره إلى اثنين وعشرين كفيلا ، فمات جوعا وعطشا ، لأن كل كفيل كان ينتظر من الآخر أن يقوم بالمهمة.

وكما نعلم ، فتوحيد المصطلح قد يكون عبئا في البلد الواحد في غياب سلطة مركزية تفرض اختيارات أو آليات ملزمة . والمشكلة أننا نسمح لهذه المشكلة أن تكبر إلى حجم يجعل التعامل معها مستحيلا . ونتخذ من ذلك عذرا لعدم التقدم أو لعدم العمل . وكما ذكرنا ، فإن هذا الحجم غير الطبيعي يدفع إلى تعصب مؤسسات كل قطر بما لديها . وبعد عقود طويلة ، لا يزال السوريون يصرون على مصطلحاتهم والعراقيون والأردنيون وغيرهم على ما وضعوه أو استنبطوه . وتتحول قضية علمية أو فنية إلى قضية سيادة لا يجوز لبلد أن يتدخل في شؤون بلد آخر ، أو يفرض عليه مصطلحاته .

وهنا أشير إلى مثلين مضادين . الأول جنوب إفريقية ، التي فيها " دستور ديموقراطي متطور يعترف رسميا بإحدى عشرة لغة في إطار عملية بناء أمة متعددة الإثنيات والقبائل والمذاهب والديانات،على أساس المواطنة الديموقراطية "(4) . ومع ذلك ، لا يهتمون بتوحيد المصطلح الجنوب إفريقي . ولا يكون تعدد اللغات ،على ما يضع ذلك من أعباء مادية وبشرية وثقافية على الدولة ، مانعا للتقدم العلمي والثقافي وغيره ، لوجود الإرادة والعمل الصادق ، والآليات المناسبة الفعالة. والمثل الثاني هو من الإتحاد الأوربي المؤلف من خمس وعشرين دولة ، وعدد مقارب من اللغات ، بما فيها اللغة المالطية التي يتحدث بها أقل من 400000 شخص . ومع ذلك ، فإن الإتحاد يحترم هذه اللغات جميعا ، ويصدر التعليمات والرسائل الرسمية بها أيضا . ولم يطالب بفرض لغة واحدة لغة رسمية للإتحاد . وعدد اللغات ما كان عائقا أمام التقدم الحضاري والعلمي والتقاني .

ماذا عن التقدم في قضية توحيد المصطلح ؟ ذكرنا وجود آليتين لتوحيد المصطلح : مكتب تنسيق التعريب ، واتحاد المجامع العربية . وكلا الآليتين متوقفتان عن العمل ، إضافة إلى ما أنتج قليل قديم.  وفي ظني أن عدم استعمال اللغة العربية في التدريس الجامعي ، وضعف مؤسسة اتحاد الجامعات العربية في الاتفاق على أمور جوهرية ، حرم قضية التوحيد من الحوافز والضغوط . ومع أنه يصعب إثبات تواطؤ عدة جهات على إفشال مشاريع التوحيد وآلياتها ، إلا أن النتائج التي نعيشها توضح أنه لم يعد مهما إن كان الإفشال مقصودا أو غير مقصود . ونحن هنا لسنا هيئة قضاء ، ولسنا بصدد محاكمة أحد ، أو إصدار أية أحكام ، فإننا جميعا مذنبون . أولا ، لأن اهتمامنا باللغة العربية يضعف ولا يقوى . ولوجود ردة لدى المؤسسات التعليمية العامة والخاصة بل ولدى الناس العاديين  عن العربية . وبلغ الأمر إلى حد نسج أساطير منفرة حول العربية ،وأخرى حول الإنجليزية ( بشكل  خاص ) أساطير محببة .

وسؤالنا الأخير هل وصلنا إلى طريق مسدود . وهل نغلق باب الأمل ونرفع الراية البيضاء ؟ في ظني أن باب الأمل لا يغلق . فنحن أمة عريقة ذات تاريخ طويل . وبالنسبة إلى اللغة العربية ، فقد مرت الأمة في محن وأزمات عميقة مؤذية قد لا تقل عما نحن فيه . " وجرت محاولات حثيثة لنشر لغة غير العربية في البلاد .فقد ملأ المجاهد نور الدين زنكي البلاد أتراكا . وأسكن صلاح الدين الأكراد في المناطق الحساسة مثل الطفيلة ... واحضر الفاطميون إلى القاهرة أعدادا كبيرة من كتامة وهوارة ، فأسكنوا الأولى في القاهرة ...بينما استقرت الثانية في الصعيد .وحاول السلطان قلاوون نشر التركية التي افتخر بإتقانه إياها . وعقد مؤتمرا في الأردن لهذه الغاية على ضفاف بحيرة زغر  ( البحر الميت )... واستثار عمله هذا كاتب الإنشاء في السلطنة ابن منظور الأنصاري فألف لسان العرب لحماية العربية من سلطانه "(5) .  وجاء العثمانيون حكاما بعد المماليك ، ولم يهتموا باللغة العربية . وقد بدأت حركة النهضة في القرن التاسع عشر .وكان محمد علي الألباني الأمي راعي هذه النهضة . ومع نهاية الحرب العالمية الأولى ، رزحت بلادنا تحت الاستعمار الأوربي . وظهرت دعوات لهجر اللغة الفصيحة ، بل وهجر الحرف العربي . وأرى أن الفتنة الحديثة هي موجة من تلك الموجات ، قد تطول أو تقصر . لكن الغلبة ، في النهاية ، ستكون للغة العربية .

إلا أن حاضرنا للمتعجل وقصير النظر وقليل العمل ، يبعث اليأس ، واليأس يضعف الهمة ، فتزداد الأمور سوءا . ولا توجد أذهان كسولة فطرة ، ولا قوم بليدون جبلة ، وإنما تحتاج الأمم إلى قيادات قوية بعيدة النظر ، تحملها على التضحية ، وتحمل المشاق ، والعمل الدؤوب ، وتبعث فيها الأمل الجذاب ، والطموح الذي لا حد له . وتبني في نفوسها ثقة وطيدة ، وتحفزها برسالة تتجاوز حدود زمانها ومكانها .

خاتمة

قد يظهر من العبث الاهتمام بقضية توحيد المصطلح قبل أن يكون للمصطلح قبول فعلي ، يبين في استعماله على نطاق واسع ، وأن يؤدي هذا الاستعمال إلى بلبلة بين أهل العلم أو الصناعة ، ليكون هذا حافزا ضاغطا على أصحاب الشأن لينهضوا بهمة إلى توحيد المصطلح . والانشغال بقضية دون حل القضية السابقة لها كمن يبني الطابق الثاني قبل أن ينهي وضع الأسس القوية للطابق الأول ، فهو إما عبث أو غباء . فهل نحن مولعون بنطح الصخرة حتى تتكسر منا القرون أو الرؤوس ؟ أم هو طريق للتعجيز لكي تضيع الجهود وتفنى الموارد ، ونعود إلى حيث بدأنا نندب حظا عاثرا ، أو نلعن مستعمرا جائرا ؟

في تقديري ، قضية توحيد المصطلح في ظروفنا الآن ثانوية ، وهي أقرب إلى الترف . ففي عصر العولمة ، والقرية العالمية الواحدة ، وسطوة اللغة الإنجليزية ، وافتتان الشعوب العربية بها ، وغلبة المدنية الأمريكية بكولاها ومكدونالدها ، وبرامج التلفاز الأمريكية للصغار والكبار ، رجعنا إلى مربع الوجود بالنسبة إلى اللغة العربية . مع أن اللغة العربية أبرز مميزات الهوية العربية ، وهي العلامة الأقوى للوحدة . والمفروض أن نزيد في رعايتها حتى لا نتحول أمة ذات وجود تاريخي كالهنود الحمر .  وأقدم فيما يلي مقالة رائعة للدكتور عزمي بشارة

تحويل الصراع على اللغة إلى صراع على الهوية

ليس الاختلاف في الرأي تشرذما أو فرقة ولا التعددية انشقاقاً، بل هي من عناصر غنى الأمة الديموقراطية، فالأمة الديموقراطية ليست مولودا عضويا موحدا بل نتاج تفاعل التعددية والاختلاف في إطار سياسي واحد ذي سيادة وجهها الآخر هو المواطنة. ولكن ما يخشى عربياً هو التشرذم والفرقة والانقسام داخل الكيانات السياسية إذا تحول الخلاف إلى صراع هويات تمثل مصالح صيغت بشكلٍ لا يمكِّنها من العيش في إطار سياسي واحد، ومنها الطائفة والقبيلة وغيرها إذا سيِّست.

وكأن هذه الجماعات العضوية القائمة لا تكفي نجدنا من ناحية أخرى نحول بأيدينا فوارق واختلافات وصراعات طبقية واجتماعية لا علاقة لها بالهويات إلى هويات وثقافات وانتماءات وذلك بفعل زج عناصر أخرى مثل الفجوة في الثقافة والتربية. بأيدينا نقترف ببلاهة جريمة خلق فرقة غير قائمة.

وفيما ننظر من حولنا بذهول إلى حالة تشرذم السياسة العربية تجري الحياة اليومية وتعيد إنتاج مقومات الفرقة والانقسام، ولكنها لا تلفت النظر عندما لا تكون سياسية صارخة أو طائفية أو عشائرية.

خذ مثلا مسألة اللغة العربية، ولا أقصد هنا تعدد اللهجات العربية أو تطور الفصحى، بل أقصد تحول اللغة العربية واستخدامها إلى إشكال اجتماعي بدأ يحول فئات اجتماعية متباينة طبقياً إلى ثقافات متباينة. يجري هذا باتجاه معاكس لصيرورة أخرى إيجابية بفعل توحيد وسائل الاتصال للسوق الإعلامي. فهي تنتج موضوعيا لغة موحدة تتموضع ما بين المحكية والفصحى وتقرب اللهجات من بعضها بعضاً في الوقت ذاته.

ويصعب على مواطن ياباني أو فرنسي أو ألماني أو حتى إسرائيلي أن يفهم كيف يمكن ان يولد أطفال لوالدين فرنسيين أو يابانيين أو ألمانيين أو إسرائيليين ينمون وينشأون في بلدهم، ولكنهم لا يتحدثون لغتهم الأم لا في البيت ولا المدرسة، ولا يدرسون العلوم في بلدهم بلغتهم. فهذا أمر طبيعي وبديهي بنظر مواطن تلك البلاد ومطلوب حتى من المهاجر في بلده، فكم بالحري ممن ولد فيها؟ ولكن في بعض أوساط الطبقة الوسطى العليا في بعض الدول العربية من فاق اليابانيين والفرنسيين والكوريين والألمان تطورا. وبات استخدام الانكليزية في البيت والمدرسة وبين أهل عرب وأبنائهم في بلد عربي حالة منتشرة. وهي تؤسس لتحول الخلاف السياسي والطبقي والاجتماعي إلى خلاف حضاري يحولنا إلى أكثر من شعب في البلد نفسه. نحن نؤسس بأيدينا لأن تصبح خلافاتنا في المستقبل حرب ثقافات. وحتى حيث لا يوجد سبب بين لذلك أو أساس موضوعي لذلك، فنخن نتكفل بصنعه.

يُكثر العديد من مدعي التنور العرب الحديث عن التفاعل بثقة مع العولمة بدل اعتبارها مؤامرة على العرب، والنهي عن الاحتجاج عليها والحث على الأخذ من الحضارة الإنسانية بفعل التفاعلات الكبرى الجارية في العلوم وفي اقتصاد السوق والحاجات الاستهلاكية وأنماط المعيشة وغيرها، وأن نسأل أنفسنا ماذا نقدم كحضارة للحضارة الإنسانية في هذا العصر. وهذا حسن، ونحن نؤيد هذه النزعة لطرح هذا النوع من الأسئلة. ولكن كل الشعوب والدول التي ترفض إدارة الظهر للعولمة العلمية والتقنية والاقتصادية وتتفاعل معها وتتطور وتطوِّر مساهمتها من خلال ذلك بنماذج مثل اليابان وكوريا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وحتى إسرائيل العنصرية إنما تفعل ذلك بلغاتها هي. وتبقى الانكليزية لغة ثانية يفترض ان يتقنها المتعلمون طبعاً.

ويبدو لي ان المجتمع الذي لا ينجز ذلك في بلده بلغته، لا يتفاعل مع العولمة في الواقع ولا يتطور معها بل يقلد ولا يبدع، ويكرس تخلفه وتخلف مجتمعه. من لا يتفاعل مع العولمة ولا يجاري التطور في الاقتصاد والعلم والفنون بلغته يبقى على هامش الحضارة الإنسانية ولا يساهم فيها، بل أكثر من ذلك يحجب التطور عن لغته ذاتها. فاللغة، ومعها المفاهيم والثقافة، لا تتطور إذا أقصيت عن الاستخدام في المجالات الديناميكية المتطورة والمتغيرة باستمرار مثل العلوم والفنون والاقتصاد، وإذا اقتصر استخدامها على الأدب والمقالة والخطابة مثلا. نحن نجد أنفسنا أمام وضع يتخرج فيه طالب جامعي من جامعته من دون أن يقرأ مقالا علميا واحدا بالانكليزية من جهة، ويتخرج آخر لا يتقن العربية من جهة أخرى ولم يستخدمها أصلا كلغة دراسة وتدريس منذ المدرسة الابتدائية. وكلاهما وجهان لعملة التخلف العلمي والاجتماعي نفسها.

«حتى» في الولايات المتحدة وبريطانيا واستراليا وكندا يتم التعليم والبحث والتدريس باللغة الأم، وهي في تلك الحالة اللغة الانكليزية. وعندما يستخدمها السكان لا يقلدون بذلك أحدا. إنها لغتهم الأم. وفي داخل كندا ذاتها، في إقليم كيبك يصر الناس على التعامل اليومي والرسمي والتدريس والتربية والبحث بالفرنسية.

يندب أبناء الطبقات الوسطى العليا العرب حال الجامعات والمدارس العربية ويتذمرون من وجود الجامعات الاسرائيلية الست بين الألف جامعة المصنفة أولى في العالم، وغياب الجامعات العربية عنها كافة. ويعكف بعضهم على بناء مدارس وجامعات خاصة تدرِّس بلغات أخرى غير العربية معتقدين أن هذا هو الحل.

توجد في إسرائيل جامعات خاصة وجامعات رسمية تابعة للدولة. وكلها تدرس بالعبرية، فقط بالعبرية. وسميت الجامعة الأولى الجامعة العبرية وليس اليهودية أو الإسرائيلية، نسبة إلى اللغة والثقافة التي تريد إحياءها وتطويرها من خلال التدريس بها والبحث العلمي بواسطتها. والجامعات الست المرموقة، بما فيها كلية الهندسة التطبيقية، هي العامة التابعة للدولة، لأن الدولة فقط تتمكن من رعاية البحث العلمي بهذه الكثافة، أما الجامعات الخاصة فهي كليات تدريس ومصانع شهادات في مواضيع مهنية غالباً. الحالة مختلفة في الولايات المتحدة طبعا حيث رأس المال المستثمر في التعليم الخاص والصناعة في الوقت ذاته، ولكن ليس هذا موضوعنا.

ولا توجد في إسرائيل مدرسة واحدة تدرس بغير العبرية إلا إذا كانت لأبناء العاملين في السفارات الأجنبية. فالعبرية في حالتهم ليست مجرد تواصل بل أداة بناء الأمة. وهي لغة لم تستخدم قرونا عديدة في الحياة اليومية وعندما نفض عنها الغبار كانت أقدم وأقل مرونة وغنى من العربية بفعل تحنيطها في الكتب المقدسة والتلمود وبعض الشعر، ولكن استخدامها بهذه الكثافة في العلوم والفنون والتعامل اليومي وفي إنتاج الحداثة بشكل عام فتحها للتطور. ونحن لا نود التوقف كثيرا عند هذا الموضوع، بل نود أن نؤكد فقط أن كلاً من التعليم الرسمي والخاص في إسرائيل يستخدم اللغة العبرية.

ليست الحالة الإسرائيلية نموذجا يقتدى بالضرورة، ولكني اجلب هذا المثل لأن المتغرِّبين العرب عموما مندهشون من إنجازاتها رغم كونها كولونيالية، وتصل الدهشة أحيانا حد الإعجاب كتعبير كسول عن نفور من الحالة العربية، وذلك من دون معرفة بالتجربة الإسرائيلية ذاتها ومن دون استعداد لمواجهة استحقاقات مثل هذه التجربة...

وخبراء التخطيط الأميركيون أنفسهم الذين يمتدحون التجربة الإسرائيلية في التعليم أمام مستمعيهم العرب، لا يستوقفهم أن الطالب الإسرائيلي يخرج من هذه التجربة بانكليزية مكسرة ومضحكة كلغة ثانية، ويشجعون الانتقال للتدريس بالانكليزية عند العرب... نقطة للتفكير.

ومن معرفتي بمناهج التدريس الرسمية في مدارس لبنان والأردن ومناطق السلطة الفلسطينية فإنني اعتقد أنها لا تقل جودة عن الاسرائيلية وحتى الأميركية، ان لم تكن أجود. ولا استبعد أن يسري هذا الحكم على دول عربية أخرى لا أعرف مناهجها. الفرق في حالة إسرائيل هو في الاستثمار المالي والاجتماعي الرسمي في التعليم، وحجم هذا الاستثمار من الموازنة وتوزيع العبء التخطيطي بين البلدية والحكم المركزي واهتمام أولياء الأمور.

وكلما زادت الفجوة الاجتماعية في إسرائيل نشهد مظاهر تردي التعليم كما في بلدان العالم الثالث وكما في حال المدارس المتوفرة لأبناء الطبقات الفقيرة في الولايات المتحدة. وعلى كل حال لا يكمن الحل بإقامة مدراس جديدة للنخبة تدرس بمنهج آخر ولغة أخرى غير العربية. فهذا يفقر ويقلل الاهتمام بالتعليم العام، ويسحب منه الطلاب والمعلمين الجيدين والأكفاء ويفقر اللغة. وإذا كان هذا كله لا يكفي، نضيف الأمر الحاد الذي بدأنا به هذا المقال أنه يحول الفئات الاجتماعية المتفاوتة طبقيا إلى ثقافات تكاد تكون شعوبا تتكلم لغات مختلفة وتتابين في الفضاء الثقافي والذوق والعاطفة وحتى في روح الدعابة. وطبعا تهيمن ثقافة الطبقة على من يقدم لها الخدمات حتى لو كان نادلا في مطعم أو سائقاً فإنه يجد نفسه يتكلم الإنكليزية المكسرة متباهيا دونما حاجة، لأن من يتكلم معهم يتقنون العربية مثله ولا يتقنون الانكليزية مثله أيضا.

لا يجارينا في هذا الوضع سوى الهنود. وقد يفطن أحدهم الآن بعد أن ذكرته فيعيرني قائلاً: أنت تناقض نفسك فالأخيرون باتوا يبدعون في العلوم. هذا صحيح، ولكن الإبداع الرئيسي الذي يتفوقون فيه هو في علوم هي لغات قائمة بذاتها مثل الرياضيات وعلوم الحاسوب. وهنالك طبعا آلاف الهنود الذين يبدعون في العلوم والفنون والآداب في سياق آخر ودول أخرى في الغرب مثل آلاف العلماء العرب الذين يبدعون في الخارج. يجري هذا في سياق ثقافي مختلف تماما، ولا يعني إطلاقا مساهمة عربية في العلوم والفنون. ولا يعني مساهمة في تطوير الثقافة العربية أو المجتمع العربي. فمساهمة العربي التي نعتز بها في فرنسا أو أميركا فرنسية أو أميركية أو هي على الأقل جزء من التنوع القائم في فرنسا أو أميركا، ومن إنجازات مؤسساتها الأكاديمية والثقافية، ولا مانع بعد ذلك من الافتخار لمن يريد.

في مراحل النهضة العربية الواعدة كان أبناء الطبقات الميسورة يصلون حتى إلى جامعات أكسفورد وكامبردج وغيرها بلغة عربية كلاسيكية وانكليزية ممتازة، ويتخرجون ويبدعون بلغتهم الأم، وقد تطوروا بالعربية، وطوروا اللغة العربية. وكان هذا من معالم النهضة.

ونحن لا نعتبر هذا النموذج مقدساً، ولا يجوز التعصب، فلا يضير أحدا ان يستخدم تعبيرا بالانكليزية من علم من العلوم في كلامه لغرض الدقة ثم يترجمه فورا بعد ذلك مفتتحا حوارا أو على الأقل تفكيرا حول أفضل ترجمة له. لا مشكلة في إدخال تعبير هنا وتعبير هناك من اللغات الأجنبية في الكلام في إطار السعي لإيجاد مرادف عربي.

أما النفور من العربية من دون إتقان الانكليزية ولا غيرها فهو مؤشر على إمكانية انحلال وليس دليل نهضة. والأهم من ذلك أن ما يجري دونما حاجة هو زرع بذور نبتة شقاق سامة بين ثقافتين متباينتين. ما فعله المستعمرون الفرنسيون في الجزائر حوَل الصراع الاجتماعي بعد عقود إلى صراع ثقافي دموي ترافقه أزمات هوية حادة وردود فعل عصابية جماعية، نقوم نحن بصنعه بأنفسنا في مرحلة الانحلال هذه.

نقطة للتفكير.(6)


اقتراحات

يوجد لدينا مئات الألوف من المقابلات العربية للمصطلحات الأجنبية ، تراكمت على مدى أكثر من قرن ، مصادرها :

1- ما وضعه المترجمون أو المؤلفون أو الباحثون في شتى ميادين المعرفة ، وبخاصة بعد المواجهة  مع اللغات الأوربية وبخاصة الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية والروسية . وهذا كم متواصل النماء ، بسبب الترجمة المتواصلة عن اللغات الأخرى ، وحاجة المترجم إلى مقابل يصاغ آنيا . إذ ليس عنده الوقت لاستشارة المجامع اللغوية وأمثالها من مؤسسات . 

2- ما وضعته مؤسسات رسمية أو أهلية من قبل لجان تابعة لها وأقرته ، مثل اتحاد المهندسين ، أو مجلس الدفاع العربي المشترك .

3- ما وضعته مجامع اللغة العربية على مدى تاريخها ونشاطها . ونلاحظ هنا ما يلي :

أ – تفاوت المجامع في عدد المقابلات التي وضعت .

ب – عدم تطابق الميادين المتخصصة التي وضعت فيها المقابلات من مجمع إلى آخر .

ج – عدم تطابق المقابلات الموضوعة من قبل الجهات المذكورة أعلاه في جزء مهم منها .

كما نلاحظ أن وضع المقابلات سيتواصل بطرق منظمة وأخرى منظمة .

ومن أجل الخروج من هذا الركام والفوضى ، نقترح خطتين . إحداهما ، لمعالجة الموجود . والأخرى لكي تعالج ما سيوضع .

بالنسبة للقسم الأول ، تكون الخطوات :

1- يجري حصر لما هو موجود من المقابلات لدى المجامع اللغوية وغيرها من المؤسسات ، أو ما وضع في معاجم منشورة ، وتقوم بذلك المجامع اللغوية . ويوزع اتحاد المجامع المعاجم المنشورة على هذه المجامع . ويضع اتحاد المجامع خطة موحدة لهذا التجميع تتبع بحذافيرها من كل مجمع . وتوضح النقاط الفنية الواجب اتباعها ، وبخاصة المختصرات الدالة على الميدان المعرفي ، وعلى الجهة التي اقترحت المقابل . مع وضع جدول زمني لإتمام العمل . وتخزن هذه المقابلات حاسوبيا بترتيب واحد من جميع المجامع.

2- يوزع اتحاد المجامع هذا المخزون على المجامع العربية . ويقوم كل مجمع بإعادة كتابة هذه المقابلات على هيئة معجم موحد أولي . تذكر الكلمة الإفرنجية ، وجميع مقابلاتها الموضوعة ، مع الإشارة إلى مصدر كل مقابل . ويطلب من كل مجمع دراسة هذه المقابلات ، واختيار أحدها أو أكثر ( حسب الحال ) . ويعتبر هذا الاختيار نهائيا وباسم اتحاد المجامع .

3- ينشر هذا الاختيار على موقع اتحاد المجامع على شبكة الإنترنت ، وعلى موقع كل مجمع ، بعد تبوبه حسب الأبواب المقرة من قبل اتحاد المجامع . ( مثل الترتيب الهجائي عربيا وإفرنجيا ، والموضوع ).

4- تنشر هذه المعاجم الموحدة نشرا ورقيا على مستوى جميع الدول العربية . ويكون النشر باسم اتحاد المجامع العربية .

5- تسعى المجمع ، كل في قطره ، إلى استصدار قانون قطري ، يلزم الكتاب والمؤلفين استعمال هذه المعاجم الموحدة .

6- يؤلف كل مجمع لجنة متابعة تتولى مراجعة ما يكتب وينشر ، ومدى الالتزام بالمعاجم الموحدة .

وبالنسبة إلى القسم الثاني ، فيما يختص بما يجد من مقابلات ، فنقترح ما يلي :

تعتبر المجامع العربية جميعا على قدم المساواة  في غيرتها على اللغة واهتمامها ، وكفاءة أعضائها . ننطلق من ذلك لأن الوقت والجهد أهم من أن يصرفا على أعمال شبه متوازية ، ثم يصار إلى توحيدها . 

1- تعتمد آليات موحدة موضوعة من قبل اتحاد المجامع ، سواء في المنهجيات أو المختصرات ، أو شكل الإخراج تتفق ما وضع في القسم الأول أعلاه . مع تفضيل وضع تعريف دقيق للمقابل . 2- يجري توزيع للميادين المعرفية على المجامع اللغوية . ويقوم كل مجمع بمتابعة المقابلات غير المذكورة في القسم الأول ، ووضع آلية سريعة فعالة لذلك .

يتبع كل مجمع المنهجية والآليات المتفق عليها لإقرار المقابل الجديد . تنشر هذه المقابلات على الإنترنت، ويسمح بتلقي ردود من أي جهة ، فردا أو مؤسسة ، حسب خطة وزمن متفق عليهما .

3- يقر كل مجمع ما توصل إليه من مقابلات ،. ثم تنشر حاسوبيا وورقا باسم اتحاد المجامع العربية .

 

 

 

 

 

 

الهوامش

1- ابن وهب الكاتب ، نقد النثر ( منسوبا خطأ لقدامة ) ، تح عبد الحميد البياري ، بيروت 1982.

2- الفارابي ، أبو نصر ، كتاب الحروف ، تح محسن مهدي ، بيروت 1970 ، ص ص 112-113.

3- الجاحظ ، أبو عمرو ، البيان والتبيين ، تح عبد السلام هارون ، بيروت 1990 ، 1/88 .

4- بشارة ، عزمي ، "جنوب إفريقية والأفق الفلسطيني "، موقع www.arab48.com    بتاريخ 8/8/2007 .

5- غرايبة ، عبد الكريم ، "اللغة العربية في المغرب "، مقالة غير منشورة ، اقتناء خاص ، 2006.

6- بشارة ، عزمي ، " تحويل الصراع على اللغة إلى الصراع على الهوية " ، جريدة الحياة ، 5/7/2007 .

مراجع

الزعبي ، زياد ، المثاقفة وتحولات المصطلح ، كتاب الشهر 127 ، وزارة الثقافة 2007 ، عمان .

No comments: