Wednesday 6 March 2013

اللغة العربية بين ظلم أبائهاوعجز علمائها


اللغة العربية بين ظلم أبنائها وعجز علمائها ومؤسساتها

أ. د. عبد المجيد نصير

عضو مجمع اللغة العربية الأردني

أستاذ الرياضيات

جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية

لو قيل لكم، عندنا يتيم لا يستطيع أن يخدم نفسه، وضعناه في مؤسسة يشرف على خدمته اثنان وعشرون مشرفا، فكيف تكون أحواله؟ قد تظنون أنه سيكون في أحسن حال وأهدأ بال. وما ردكم، دام فضلكم، لو قلت لكم إنه سيموت جوعان، في أقذر أسمال من الثياب، رائحته كالصنان. والسبب بسيط. ذاك أن كل مشرف كان يظن أن غيره سيقوم بالواجب، ولذلك تقاعس عن أداء واجبه، ومن ثَمّ كان نصيب اليتيم الإهمال التام.

هذه هي حال اللغة العربية مع الدول العربية الاثنتين والعشرين. يتيمة! تدعي كل دولة أن لغتها الرسمية هي العربية، وتظن أن هذه المادة الدستورية هي أقصى ما يمكن أن تقدم لهذه اللغة من حقوق. بينما تتقدم اللغة الفرنسية في بعض أقطارها، وليس على مستوى النخب فقط؛ وتتغلغل الإنجليزية في الاقطار الأخرى حتى على مستوى المدرسة ورياض الأطفال؛ وفي ساحات إعلامها تظن أنك تعيش في عالم آخر، ليس عربيا وليس افرنجيا، بل هو ما سمي عرابيزيا. امشِ في أسواقها لتقرأ أسماء متاجرها وأعمالها بأي لغة عدا العربية؛ وادخلْ جامعاتها، وطفْ بقاعات محاضراتها لتجد أنك لا تسمع إلا هذه العرابيزية. هذا مع أن القانون الجامعي ينص على أن لغة التدريس هي اللغة العربية، وأن من أهداف التعليم العالي العناية باللغة العربية وتقدمها". بل إن كل دستور ينص على أن اللغة العبية هي اللغة الرسمية! فيا ترى لو أن هذه النصوص كانت محذوفة من القوانين والدساتير، بحجة أن التواصل باللغة العربية في البلاد العربية هو تحصيل حاصل، ولا يحتاج إلى نصوص؟ فماذا ستكون عليه الحال؟ أضيع من أيتام على مأدبة لئام!

والمصيبة أن الجميع يسيء معاملة اللغة العربية، حتى معلموها في المدارس، وواضعو المنهاج في الوزارة، والأساتذة في أقسام الغة العربية وآدابها الذين يعتاشون بسببها، وكذلك مجامع اللغة التي أنشئت من أجلها. وكذلك خطباء المساجد، ومقدمو البرامج في الإذاعة والتلفاز، والخطباء في المؤتمرات، والسياسيون الذين يتفيهقون في كلامهم الممجوج، هذا إن تنازلوا واستعملوا لغة عربية من نوع ما في تصريحاتهم وخطبهم، والقضاة مدنيون أو شرعيون، وهم يملون أحكامهم النزيهة(!) والشعراء والأدباء الذين لولا هذه اللغة لما كان لهم أدب ولا شعر؛ وحتى الناس العاديون الذين يتباهون بأن اطفالهم في روضات الأطفال يرطنون ببعض كلمات إنجليزية أو فرنسية. وبعد كل هذه القنابل التي تلقى على اللغة العربية لتدميرها والتنفير منها، أنعجب أنه بقي لنا لغة عربية! وعلينا أن لا ننسى دعوات استعمال العاميات، أو الحروف اللاتينية بدل الحروف العربية للكتابة، أو الاكتفاء بأن تبقى اللغة العربية لغة الطقوس الدينية لدى كهنوت المسلمين(!). في هذه الجامعة والجامعات العربية التي ينوف عددها على أربعمئة، كم عدد الجامعات التي تدرس جميع مساقاتها بالعربية، ولا أقول اللغة العربية الفصحى أو السليمة؟ جامعات رسمية في سورية وليبيا والسودانز أما في غيرها، فعليها أن تدرس وتكتب وتبحث باللغة الإنجليزية، لغة التقدم العلمي، وكأن الألمان أو الفرنسيين أو الفنلنديين (موطن شركة نوكيا) أو الكوريين أو اليابانيين أو الصينيين هم في أسفل دركات التقدم العلمي والتكنولوجيي، لأنهم يدرسون ويبحثون بلغاتهم الأم!

إذن لنعترف أننا جميعا مجرمون في حق هذه اللغة، لغة الهوية والقرآن والتراث والتميز، لغة أول حضارة إنسانية عالمية لمدة ستة قرون (800 – 1400 م)، أطول من أي حضارة أخرى. ويكتب الأستاذ كارل بوير في كتابه "تاريخ الرياضيات" (إنه حتى القرن السابع عشر لم يُعدَّ عالما في أوربة من لم يكن يعرف اللغة العربية). كالمجد الذي تحوزه الإنجليزية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وانغماس الولايات المتحدة الأمريكية في عولمة الأقطار الأخرى.

اعتزاز الآخرين بلغاتهم

في سنة 1913 كان في فلسطين معهد تكنولوجي للمهاجرين اليهود، وكانت لغة التدريبس العبرية. وسمع الطلاب بوجود اتجاه لتغيير لغة التدريس إلى لغة أخرى (الألمانية). فهب الطلاب وكأن مسا من الجنون أصابهم غاضبين على مجرد التفكير باقتراف هذه الجريمة. فأرسلوا رسالة شديدة اللهجة إلى إدارة المعهد محتجين ومهددين بأنهم سيتركون الدراسة لو جرى تنفيذ هذا التغيير (نشرتُ هذه الرسالة في جريدة الرأي سنة 1984). علما بأن اللغة العبرية التي أحياها دافيد بن أليعازار في نهاية القرن التاسع عشر، بمفردات من العهد القديم وشيء من اليدش (لغة يهود أوربة)، وما يستعار من لغات أخرى. وهم في دولة الصهاينة، وقد حازوا تسع جوائز نوبل، آخرها في الكيمياء في آخر توزيع، يعلمون بهذه اللغة، ويتحدث سياسيوهم في المنابر العالمية بها. وآخر ما قرأت خبرا في جريدة القدس العربي (1/3) احتجاج "مجمع اللغة العبرية" على إقامة دورات باللغة الإنجليزية.

وكانت فيتنام مستعمرة فرنسية. ومن المعلوم أن الاستعمار الفرنسي كان استعمارا إحلاليا ثقافيا، يطمسون فيه لغة البلد المستعمَر، وهويته وثقافته. وانتزع الفيتناميون استقلالهم بعد معركة ديان بيان فو سنة 1954. وأمر قائدهم هوشي منه بفتمنة التعليم بما فيه الجامعي، واحتج أساتذة كلية الطب على الفتمنة واستحالة تطبيقها. وأصر القائد ونجحت الفتمنة.

احتلت اليابان كورية في بداية القرن العشرين، وكان الكوريون متقدمين حضاريا على محتلهيم, وحاولوا اقتلاع اللعة الكورية من كل ميدان. ونشأت اجيال لا تعرف لغتها الأم. ثم استقلت كورية بشقيها الجنوبي والشمالي سنة 1955. ولا ريب أن اللغة هي أهم مميزات الهوية المستقلة. ولكن أين يوجد الذين يتكلمون الكورية دون لوثات الاحتلال؟ إنهم هناك في القرى وبخاصة النائية والمنعزلة. فجيء بهؤلاء القرويين ليكونوا أساتذة أصحاب الياقات البيضاء يعلمونهم لغتهم. وفرضت الدولة استعمال اللغة الكورية ومنعت بكل الوسائل استعمال اللغة اليايبانية، حتى إن الشرطي في الشارع كان له الحق أن يكتب مخالفة لمن يسمعه يتكلم باليابانية. وها هي كورية بتقدمها العلمي والتكنولوجي ليس عندها مركب نقص من هذه اللغة أو خجلا من استعمالها. علما بأنهم محتلون من قبل الأمريكان، بجيوش وقواعد عسكرية وغير ذلك.

أما فنلندة ذات الملايين الثلاثة وهي بين العملاق الروسي السوفيتي والاتحاد الأوربي بعمالقته من انجليز وألمان وفرنسيين، ومع ذلك تدرس بالفنلندية، وتستحوذ شركة نوكيا الفنلندية على أكثر من نصف مبيعات الهواتف الخلوية، في سوق وصل التنافس فيها حد القتل.

أما عن الصين فحدث ولا حرج. فحروف لغتها المندرين تناهز الخمسة آلاف هذا مع كثرة لغاتها ولهجاتها. أقامت نظامها الجديد سنة 1949، بلد البليون نسمة، بلد الجوع والفقر والمرض والجهل. ولم يدر بخلد قياداتها ابتداء من ماو تسي دونغ بأن يختاروا لغة أمة متقدمة أخرى: روسيا أو الأمريكان أو الألمان أو اليابان. وها هي الصين ثاني أهم اقتصاد في العالم، وستتبوأ المحل الأول في سنوات معدودة.

وها هي البرازيل، الاقتصاد الخامس عالميا، وتركية، الاقتصاد السابع عشر، وإيران التي تخصب اليورانيوم بجهود علمائها، وتنتج الطائرات حتى الطيارات دون طيار، وترسل السواتل (الأقمار الصناعية)، والصواريخ الفعالة، وغيرها من الدول المتقدمة، تعلم جميعا بلغاتها، من المهد إلى اللحد. ولا تفكر بالتدريس بالإنجليزية أو الفرنسية حتى يلحقوا بركب التقدم.

وعندما أراد والي مصر الجديد منذ سنة 1812، محمد علي باشا، أن يبني دولة حديثة معتمدة على التقدم العلمي، ولا بد من تخريج متعلمين من أهل البلد، جاء بالأساتذة من إيطالية، وبالمترجمين من مالطة. فكان الأستاذ يلقي درسه بلغته، والمترجم يسجل ذلك بالعربية، لتصير مرجعا للمتعلمين. ونجح أيما نجاح.

وبعد رحيل الحكم العثماني عن بلاد الشام، وبداية الإدارة العربية، كان من هموم هذه الإدارة تعريب الدواوين من اللغة التركية؛ مشكلة واجهت إدارة الدولة في أيام عبد الملك بن مروان. وكان لا بد من الحل، وكما فعل الأقدمون، سار على خطاهم الأحدثون. وكانت بداية مجمع اللغة العربية في دمشق. ونجح هذا المجمع بالتعاون مع أساتذة الجامعة السورية وغيرهم، من وضع المصطلحات العربية، وتعريب الدواوين بل والتعليم الجامعي بشتى تخصصاته. ولا يزال التعليم في سورية بمختلف مستوياته باللغة العربية. بل إن من أوائل ما عمله الأمير عبدالله بن الحسين في بداية عهده كان إنشاء مجمع للغة العربية في الأردن. ومن سوء الحظ أن هذا المجمع لم يلقَ الاهتمام المناسب، على الرغم من صدور الإرادة الأميرية به. ولم يظهر مجمع اللغة العربية الأردني إلا سنة 1976. واتجهت ليبيا والسودان واليمن إلى تعريب التعليم الجامعي، وحققت نجاحات بمستويات مختلفة. بل إن الكاتب الجزائري مالك حداد، الذي لم يكن يعرف الكتابة باللغة العربية، توقف عن الكتابة باللغة الفرنسية حياء من هذا القصور، واعتبر مواصلة كتابته بالفرنسية بعد استقلال بلاده نوعا من العقوق.

وهل نذكر نهضة الحضارة العربية الإسلامي، منذ القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر، تترجم وتؤلف وتضع المصطلح!

هل  توجد مشكلة؟

نُعلّم الطلاب أن تعريف المشكلة هو" موقف جديد يواجه فردا أو مجموعة، يحتاج إلى حل، ليس له حل جاهز". وحسب الأستاذين :كروليك Krulik ورودنيك Rudnik يجب توافر ثلاثة شروط في موقف ما ليكون مشكلة، هي

1- القبول: فقبول هذا الموقف الجديد والتفاعل معه للوصول إلى حل شرط ليصير هذا الموقف مشكلة. فالمريض الذي لا يرى نفسه مريضا حتى لو خارت قواه، وأصابته حمى قوية، وأعراض أخرى غير طبيعية، ليس عنده مشكلة.

2- الحاجز: يجب أن لا يكون جاهزا او سهل التناول، بل لا بد من بذل الجهود، وربما محاولات عدة، أو مراجعات كثيرة، ليصير الموقف مشكلة.

3- الاستقصاء: أي لا بد من بذل اقصى ما يستطاع من جهود، بما يتناسب وطبيعة الموقف، مدعما بحوافز ذاتية، في استقصاء سبل للحل قد تكون جديدة، أو غير معلومة لصاحب هذا الموقف.

نحدد أولا الموقف الذي نحن بصدده. إنه استعمال اللغة العربية من قبل الشعوب العربية والأنظمة على جميع مستويات الاستعمال، في البيت والشارع والمدرسة والجامعة، والمخاطبات البينية وبخاصة الرسمية وما يماثلها، والإعلام بشتى وسائله؛ والعناية بهذه اللغة تطويرا، وتيسيرا، وتحبيا، وتحببا، وهوية، وافتخارا. ونقصد اللغة العربية السليمة، وليس اللهجات العامية التي لا تحصى حتى داخل البلد الواحد، لأنها اللغة الوحيدة الموِحدة والموَحدة (بالكسر والفتح). مستواها الأعلى لغة القرآن الكريم؛ هذا بالإضافة إلى الخط العربي، الذي تطور عبر الزمن، وسيظل يتطور، دون أن يؤثر على قراءة النصوص المطبوعة منذ قرنين أو منذ يومين.

 وبناء على ما سبق، هل من مشكلة قائمة؟

نعم. المشكلة موجودة، وتستفحل عرضا وعمقا وزمانا.

نأتي أولا إلى التعليم. يكاد يكون التعليم في المدرسة باللغة العربية (رسميا) في كل بلدان الجامعة العربية، عدا الصومال وجيبوتي وجزر القمر. والمصيبة هنا، أنه في كثير من البلدان العربية تنتشر المدارس الخاصة، التي تقدم لغة أجنبية (انجليزية أو فرنسية) لغة ثانية محببة تلقى الرعاية والاهتمام والجاذبية، أو أن اللغة الأجنبية هي لغة التدريس الوحيدة في بعض هذه المدارس، بحجة أن طلابها هم ممن يحملون جنسية أجنبية (وقد تكون إلى جانب جنسية البلد العربي). بل نجد في بلد كالإمارات العربية المتحدة، مطاردة اللغة العربية من المناهج المدرسية، بحجج أوهى من بيت العنكبوت. والمصيبة الأخرى، حتى مع استعمال اللغة العربية في الكتب المدرسية، فإن هذا الاستعمال يتوقف عند هذا الحد. لأن الشرح والمحادثة والنقاش، حتى في دروس اللغة العربية، يكون بعامية قبيحة. وهكذا بدلا من أن يدرس معلم التاريخ والرياضيات والفيزياء وغيرهم موادهم بلغة عربية سليمة، تساعد على تقبلها وهضمها وحسن استعمالها، فإنهم يسيؤون إلى هذه اللغة قصدا أو دون قصد، عن علم أو عن جهالة. هذا بالإضافة إلى ما يترتب على ذلك من الضعف في الإملاء، والإنشاء، وقلة المفردات، وسوء التعبير شفويا او كتابيا.

وإذا صعدنا إلى التعليم الجامعي، فعدا عن الجامعات السورية الرسمية، وفي جامعات ليبيا والسودان، والسنوات الأولى في بعض الكليات الجامعية في اليمن وغيرها، نجد أن اللغة الإنجليزية هي صاحبة السيادة، عدا في بلدان المغرب، حيث الفرنسية لها الغلبة. وأذكر أن مؤتمرا صحيا عقد في دمشق في وسط عقد التسعينات من القرن الماضي، حضره وزراء الصحة العرب وعمداء كليات الطب في الجامعات العربية، اتخذ قرارا (ملزما) بأن يتم التحول إلى تدريس العلوم الصحية والطبية باللغة العربية مع منتصف العقد الأول من هذا القرن. والنتائج معروفة.

أما عن عداوة الإعلام الرسمي والخاص للغة العربية فحدث عنه بكل أسى. فاستعمال اللغة السليمة قليل جدا، ويكاد ينحصر في نشرات الأخبار، وقليل من البرامج. والطغيان هو للعاميات والتطعيم بمفردات أجنبية؛ وحتى أسماء بعض البرامج هي أجنبية: أراب آيدول Arab Idol، أربس قوت تالنت Arabs Got Talent . وعلى إذاعة إربد إف إم ، برنامج فلاشات! وكذلك عداوة السياسيين للغة العربية عندما يتحدثون بها، إما بالكلام العامي القبيح غير اللائق، أو بالكلام بلغة اجنبية. وأنوه بأن تصريحات أصحاب المناصب في المغرب العربي باللغة العربية هي أرقى مما يصرح به أهل المشرق. ولقد سعدتُ قبل أسابيع، عندما خطب رئيس الوزراء عوني خصاونة في مؤتمر في البحر الميت بالعربية، وأعلم أن لغته راقية، بينما خطب وزير خارجيته، فُض فوه، ناصر جودة، بالإنجليزية.

ولا تحب أن تستمع لخطب الجمعة في أكثر المساجد، لا لمحتواها الوعظي الجبان السخيف فقط، بل لتكسير قواعد اللغة، وما يصاحب ذلك من ركاكة تعابير، وسوء أساليب. وهل حاول أحد ان يقرأ الأحكام في القضايا المدنية والشرعية، لما فيها من أخطاء نحوية. وأضيف لذلك خطابات المناسبات الكثيرة في بلدنا، ومنها خطابات رؤساء الجامعات والعمداء وغيرهم في الجامعات. وقد كان الدكتور كامل العجلوني في أثناء رئاسته لجامعة العلوم والتكنولوجيا يبعث إلي بخطابه لأصحح لغته وأشكله. كما أذكر أنه، بعد اعتراضي على محاضر اجتماعات مجلس العمداء وأمثالها، طلب من أمين سر المجالس أن يبعث إلي بالمسودات لتصحيحها قبل اعتمادها. أما بعد ذلك، فالأخطاء في الكتب الرسمية، حتى من وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات كثيرة إلى حد القرف عند من عنده ذائقة لغوية سليمة.

وربما من المناسب أن نذكر، أن أمة الملايين الثلاثمئة والخمسين، هي أمة لا تكتب ولا تقرأ مقارنة بغيرها من الأمم. مما فضحته تقارير التنمية السنوية للأمم المتحدة. وتأتيني كل شهر مجلة الخريجين لجامعة براون التي تخرجت منها، وفي كل عدد تقديم لعدة كتب من تأليف أساتذة الجامعة أو خريجيها، علما بأن عدد طلاب الجامعة في حدود 7000 طالب. فهل عند جامعاتنا الرسمية أو الخاصة مثل هذا الإنتاج؟

أين المشكلة؟

اللغة كائن حي، دمها أهلوها المنتمون لها، وحسن استعمالها هو نبضها، والتأليف بها هو دماغها، وهي أنثى تحبها تحبك. ومع ذلك، نجد أن اللغة العربية تعامل من قبل المنتسبين إليها كأنها جسم أجرب، الشعار معه: لا مساس. وأكاد أقول إنه لولا القرآن وعلومه، لكانت اندثرت منذ مدة طويلة. ولصارت مثل اللاتينية لغة طقوس وتراتيل فقط.

أين المشكلة؟ أهي في اللغة نفسها، ألفاظا وأصواتا وإملاء وحروفا وتاريخا ومفردات؟ أم أين؟ دعوني أستسمح من أم كلثوم جملة من إحدى أغانيها: "العيب فيمكم، يابحبايبكم أما الحب ياروحي عليه". إن المشكلة هي في الإنسان العربي بكل فئاته، وعلى جميع مستوياته. وليست في اللغة العربية. وقد كُتب الكثير عن ما يثيره أعداء  اللغة من إشكالات، في الألفاظ، والإملاء، والنحو وغير ذلك. وقد أجاب أحباب اللغة عن هذه الإشكالات، بما لا يدع شكا لقائل.

وربما نذكر بكل أسى، لغات أخرى ليس لها عراقة اللغة العربية ولا قوتها، ألفاظا، وتعابير، وتراثا، لم تكن عائقا أمام أهليها أن يحوزوا جائزة نوبل. فاللغة العبرية، وهي لغة مصطنعة ملفقة حديثا، كتب به أدباؤها وحازوا جائزة نوبل مرتين. واللغة التركية، وكثير من ألفاظها عربية الأصل، وهي لغة محدثة أيضا، حصل أدباؤها أيضا على جائزة نوبل في الآداب.

المشكلة هي في الإرادة السياسية عند أهل الحكم فيما يتعلق باللغة، وهم أكثر من مستوى. فحيثما تكون الإرادة، ومن بعد الوسائل يتحقق المطلوب. وسأقصر حديثي في الفقرات التالية على الأردن. ففي التعليم، نجد أن التعليم الأساسي والثانوي هو باللغة العربية منذ بداية الدولة. وكانت تدرس اللغة الإنجليزية منذ الصف الخامس. لكن ظهرت مشكلة جديدة في بداية القرن الواحد والعشرين، في إحدى الخلوات الملكية في البحر الميت، عندما اقترح تدريس اللغة الإنجليزية منذ الصف الأول، أيام كان الدكتور خالد طوقان وزير التربية؛ وكان ذلك قبل بداية العام الدراسي بفترة بسيطة. وهذا اقتراح خطير. وكان من المفروض بالوزير أن ينظر في الاقتراح بجدية بالغة، وأن تؤلف اللجان المختصة لدراسته، ومعرفة الإيجابيات والسلبيات لمثل هذا الاقتراح، ومن ثم تتخذ الخطوة التالية المناسبة. ولكن الوزير لم يفعل شيئا من ذلك، ولا مجلس التربية والتعليم طلب دراسات، علما بأن هذه مسؤوليته، وتنص إحدى مواد الدستور على أن أوامر الملك الخطية والشفوية لا تخلي الوزراء من مسؤولياتهم. وأذكر، بالمقابل، أنه في أثناء تولي الدكتور اسحاق الفرحان وزارة التربية في بداية سبعينات القرن الماضي، اقترح د. إيلي بغدادي (وهو ليس أردنيا) وكان عضوا في مجلس التربية والتعليم، أن يتحول تدريس العلوم والرياضيات بعد السابع إلى الإنجليزية، وكان قد أعد الكتب لذلك. فتصدى له الوزير بقوة ، وماتت الفكرة.    

أما التعليم الجامعي ففيه المصائب الكبرى. ومن البداية أؤكد أن الإرادة والقرار السياسي اتخذ منذ أول قانون للجامعة الأردنية سنة 1973، ثم جامعة اليرموك سنة 1976، ثم التعليم العالي سنة 1986. وفيه النص صراحة، أن "اللغة العربية لغة التدريس في الجامعة، ويجوز استعمال لغة أخرى للتدريس عند الضرورة بقرار من مجلس الأمناء". (المادة 5/ب من قانون الجامعات الأردنية رقم 5 لسنة 1998). والمادة الأخيرة في هذا القانون (المادة 28) تنص على أن "رئيس الوزراء والوزراء مكلفون بتنفيذ أحكام هذا القانون". فهل قاموا بواجبهم. لأن وجود النص القانوني شيء، وتنفيذه شيء آخر. والمفروض أنه حسب المادة 27 أن "يصدر مجلس الوزراء بتنسيب من مجلس الأمناء الأنظمة اللازمة لتنفيذ أحكام هذا القانون". وعلى كثرة الأنظمة التي وضعت، لا نجد نظاما واحدا يتعلق بتنفيذ أحكام المادة 5/ب المذكورة آنفا. فمن المسؤول عن هذا الإهمال وتلك المخالفة والتقصير؟

أتحدث إليكم كأستاذ جامعي، بدأتُ بالتدريس ومن ثَم التأليف باللغة العربية منذ سنة 1979، ولا أزال. ولم أجد أي تشجيع من داخل الجامعة لا من الإدارة ولا من الزملاء، سوى كلمات مجاملة. وبقيت التجربة محصورة فيّ لا تتعدى إلى زميل آخر يتحمس ليدرس من كتابي، أو ينسق معي. بل إن مجلس عمداء جامعتنا اتخذ قرارا في 26/10/1997 بمنع التدريس بالعربية تحت طائلة العقوبة. لأن مجلس قسم الرياضيات اصطفى كتابا لي في الحسبان كتابا تدريسيا للسنة الأولى مما لم يعجب أحد نواب الرئيس آنئذ. وقد كتبت كتبا تدريسية في مساقات مختلفة من السنة الأولى حتى مرحلة الماجستير، بعضها منشور وبعضها مخطوط ينوف عددها على العشرين. كما ألفتُ كتاب في التحليل العددي لجامعة القدس المفتوحة، وشاركت في كتب رياضيات لكليات مجتمع في عمان، ونقحت كتب حسبان لجامعات يمنية. وفي سنتي التفرغ العلمي (2007-2009) ألفت كتابا في تاريخ الرياضيات  باللغة العربية ينوف على ألف صفحة، لا مثيل له باللغة العربية على الأقل.

الحل

لا فائدة من أي قانون إذا لم توضع له أدوات تنفيذ، ويجهز له القادرون على ذلك، ثم تجري متابعة هذا التنفيذ. نبدأ بالمدرسة. على كل معلم أن يعلم باللغة السليمة. ومن أجل ذلك، تعقد دورات متواصلة دائمة لتأهيل المعلمين للتحدث بها. ويشجع الطلاب على الحديث بها، مع وضع مسابقات وجوائز على مختلف المستويات ابتداء من الصف إلى المدرسة إلى المديرية إلى الوطن، لمكافأة المبدعين في التعبير باللغة العربية بشتى أنواع التعبير.

وينطبق الأمر على التعليم الجامعي. إذ لا بد من تأهيل أساتذة الجامعات على إتقان اللغة العربية كتابة ومحاضرة. وعلى أساتذة الجامعات التأليف الراقي للكتب التدريسية وغيرها، مع وجود دار نشر جامعية على مستوى الوطن. ولا بأس في أن يصدر في المبحث الواحد أكثر من كتاب لأكثر من مؤلف. فالتنافس مفيد. ويكون اختيار كتاب ما لمبحث هو من اختصاص لجان موضوعية. مع إمكان احتساب الكتاب التدريسي الجيد شرطا من شروط الترقية وغيرها.

وينطبق موضوع التأهيل على الإعلاميين، والقضاة والكتبة الرسميين وأمثالهم. ثم لا بد من متابعة استعمال اللغة السليمة في الحياة العامة عند كل من يستعملها على مستوى العامة، كأمور الإعلان وأسماء الأماكن التجارية والأسواق وغيرها.

ولا بد من جهة أو أكثر تتابع وتنسق وتنبه على مستوى الوطن. فقانون مجمع اللغة العربية ينص في المادة الرابعة على ما يلي: "يعمل المجمع على تحقيق الأهداف التالية:

أ. الحفاظ على سلامة اللغة العربية وجعلها تواكب متطلبات الآداب والعلوم والفنون الحديثة".

ج. إحياء التراث العربي والإسلامي في اللغة والعلوم والآداب والفنون".

ولكن دون أدوات تنفيذية فعالة تبقى النصوص حبرا على ورق. وقد أحس المجمع بذلك. فقدم مشروع "قانون سلامة اللغة العربية"، منذ أيام المجلس الوطني الاستشاري سنة 1982. وأعاد تقديمه لمجلس الوزراء مرات عديدة يجري عليه نقاش، ثم يحفظ في الأدراج كما يقال.

ما العمل؟

أستعير جملة للمفكر السياسي الفرنسي في القرن التاسع عشر، توكوفيل الذي قال "وطني هو اللغة الفرنسية". وأنا وأنتم وكل عربي يجب أن يقول "وطني هو اللغة العربية". إنها فخاري ووجودي وهويتي واعتزازي، هي اللغة العربية الفصيحة التي هي شأن كل واحد من أفراد أو مؤسسات. يجب أن تكون قضية اللغة العربية وجعلها أول أشغالنا، وأكبر همومنا، ولكل واحد منا، إما لعروبيته أو لدينه. أو لم يقل الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: "ألا إن العربية اللسان". علينا أن نتعاهد جميعا امام الله وأمام التاريخ، عهدا لا ننكثه، أن نخلص لهذه اللغة، لغة الوحي. "إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" فهل سنكون ممن يعقلون أم على قلوب أقفالها؟

إذن فالخطوة الأولى لإيفاء هذه اللغة حقها علينا هي أن نحبها ونخلص في حبنا، فهي لغة غيورة لا تطيق أن يشاركها هذا الحب لغة أخرى. ومن معاني هذا الحب أن نفتخر بها على رؤوس الأشهاد، وأن نتخلص من عقدة اللغة الأجنبية. وأن نحمل هذه المحبة وذاك الفخار جيلا بعد جيل.

والخطوة التالية هي في أن تكون حياتنا معها وبها ومنها، في الوسائل والوسائط جميعا. إن تعلمنا اللغة السليمة واستعمالنا لها في حياتنا خير من ألف قانون لا تطبق، ومؤتمرات ذات توصيات توضع في الأدراج، أو مناحات ومآتم تقام. لغتنا لغة حية، تحيا مع الأحياء وللأحياء.

وإن استعمال الوسائط الإلكترونية الحديثة، الخشنة منها والناعمة، سيزيد من انتشارها واستعمالها. لماذا لا يكون في كل مدرسة، بل وفي كل حي ناد للغة العربية، لتشجيع القراءة والحديث بها؟ لماذا لا يكون يوم كل شهر نسميه يوم اللغة العربية، توضع له البرامج الهادفة، والمسابقات الحافزة، والجوائز المشجعة؟ لماذا لا يكون للغة صفحاتها على مواقع الاتصال الرقمية مثل فيسبك وتويتر وغيرها؟

هذا غيض من فيض مما ينصف لغتنا منا، ويدرأ عنا تهمة الظلم. دعونا أيها الأحباب جميعا، طلابا وأساتذة وإداريين أن نتعاهد من هذه اللحظة على الإخلاص لهذه اللغة، ووضع الوسائل لرفعتها. لماذا لا نكون البادئين، أصحاب المبادرات الخيرة القوية، لا ننتظر من الآخرين أن يفعلوا فنمشي في إثرهم، بل نكون السابقين ليلحق الناس بنا؟

ألا هل بلغت! فهل من مجيب؟

No comments: