Monday 28 January 2013

مكاره كلامية


مكاره كلامية وسمعية

                                                 الدكتور عبد المجيد نصير

                                                 مجمع اللغة العربية الأردني

المكاره كثيرة في حياتنا. ومن لم يسمع بالمكاره الصحية؟ لقد سئمنا من الإشارة إليها حتى صارت جزءا من حياتنا. لكن المكاره متعددة. فمنها ما هو بصري، مثلا، عندما تقع العين على منظر قبيح منفر، تشمئز منه النفوس، وتستقبحه الأذواق السليمة. ولكني سأقصر مقالتي على مكاره الكلام مما تشمئز منه الأسماع. وما أكثرها هذه الأيام، مع انتشار الوسائل السمعية البصرية وتنوعها.

نجد ذلك في كثير من الأغاني القبيحة في الأداء أو الألحان أو الأصوات. ونجد ذلك في كثير من برامج الحوار الذي لا تخلو منه أي قناة تلفازية. وتكون هذه المكاره في الشكل أو المضمون أو كليهما. ويتضح ذلك في قلة الأدب في الحوار، من مقاطعة الطرف الاخر قبل أن يتم عباراته، أو عدم احترامه، أو في البذاءة في الرد، واستعمال الألفاظ الجارحة، والأوصاف القبيحة؛ إضافة إلى الصوت العالي، ونبرات التهديد. وأشهر برامج الحوار التي نسمع منها هذه المكاره برنامج "الاتجاه المعاكس" على قناة الجزيرة. وعلى قناة أردنية، لم يكتف أحد المتحاوريْن بخلع حذائه وقذفه باتجاه المحاور الآخر، بل استل مسدسا من خصره وهدد به هذا المحاور. وتزداد قباحة هذا الفعل عندما نعلم أن هذا الشخص هو نائب (!) أمة في مجلس النواب الأردني. ومن قصيدة قديمة قلت:

مصائب أوطاني جمة

أتقول: فلسطين،

وأجل مشكلة ضخمة.

بل أعلن: أعظمها مجلس أمة،

مجلس نواب أصبح وصمة.

كيف يجيئون لذاك المقعد؟

بالدجل المخزي، بالوعد الكاذب،

بقلوب كالليل الأسود.

النائب في الدنيا رحمة،

والنائب في الأردن نوائب،

هم فقر، هم جهل، هم مرض الناخب.

ومن المكاره الكلامية السمعية التي ما لنا بد من الاستماع إليها كثير من خطب الجمعة أو دروسها. فتراها ملأى بالكلام السطحي، أو الكلام المعاد الذي ملت منه الأسماع، أو الكلام المترع بالأخطاء إلى حد الخطايا. أضف إلى ذلك، قلة بضاعة الخطباء في اللغة العربية. فاخطاؤهم، حتى وهم يقرأون من ورقة، كثيرة إلى حد القرف عند من يتذوق هذه اللغة. فكيف إذا ارتجلوا؟ ويزيد مكاره كلامهم سوءا طول الخطبة، وتناولهم ما هب ودب من منوضوعات، يعالجها الخطيب وكأن الشافعي في عطفيه! وبودي لو أن وزارة الأوقاف تكلف جهة ما تسأل المصلين بعد نهاية الصلاة ما وعت ذاكراتهم من كلام الخطيب، لتكتشف أنهم كانوا بأجسادهم فقط. وبعض المصلين لا يحضر إلا قبيل انتهاء الخطبة حتى يوفر على نفسه عناء الاستماع لمكرهة كلامية.

ويزيد الطين بلة، أن الخطيب يظن أنه بخطبته أفصح من قس بن ساعدة، وأفقه من أبي حنيفة. ولذلك لا يراجع نفسه، فأنى له أن يرى أخطاءه؟ وأسوأ من ذلك، أنه لا يقبل أي نصح أو نقد. وحتى لو قبله، فالقبول يكون على مضض، أو ليُسكتَ المتكلم أو الناصح. وليس قبول من يريد أن يتعلم من أخطائه، وكأنه لم يسمع بالقول المأثور: "الحكمة ضالة المؤمن".

والمشكلة عند وزارة الأوقاف مزدوجة. فمن جهة، لا تسمح لكثير من الأفضل قدرة على الخطابة اعتلاء المنابر، لأسباب ليست في يدها، بل لأسباب أمنية. ثم إن كثرة المساجد والتنافس في بنائها، حتى لو وجدت مشاريع أخرى تحتاج لهذه الأموال التي تنفق على المساجد، سبب آخر. ذلك أن كل مسجد يحتاج إلى خادم مؤذن، وإمام صلاة، وخطيب جمعة، مما يزيد الضغط على الوزارة، ويجعلها ترسل خطباء غير مؤهلين أو قادرين على أن يعتلوا المنابر بحق. على أن الوزارة تعمق المصيبة عندما لا تتابع هؤلاء الخطباء، وتخضعهم إلى دورات تثقيف وتعليم سنوية، وتتابع أعمالهم ورضا المصلين عنها. فمن مصائب التعليم الشرعي جموده في الزمان ومن ثم في الأفكار، وافتقاره للإبداع.

نحن، المسلمين، ندعي أن رسالة الإسلام صالحة لكل زمان ومكان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. علما بأن النصوص، وبخاصة آي القرآن، لا تتغير. فكيف نطبق ذلك في أفكارنا واجتهاداتنا؟ لذلك، من مقتضى هذه المسألة الإسلامية، أن يلاءم التفسير وما يتبعه من تطبيق الأزمنة والأمكنة المختلفة، والبشر. وينتج من ذلك أن الخطيب الذي يحتج بتفسير آية بأنه نقله من تفسير ابن كثير غير موفق في هذا الاحتجاج. فابن كثير، وكثير من المفسرين القدامى ومن نسج على شاكلتهم، يفسرون بالمأثور عن أول جيلين من المسلمين: الصحابة والتابعين. ومع احترامنا الشديد لهم، فإن في هذا تضييقا وعنتا بل وخروجا على قاعدة العالمية في الإسلام التي تتخطى حواجز الزمان والمكان كما أشرنا. ثم إننا لا نجد في أقوال الصحابة أو التابعين ما يثبت حجية أقوالهم إلى يوم الدين. ويعجبني قول الإمام مالك بن أنس، رحمه الله، عندما أجاب على سؤال بقوله: "كل واحد يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر"، واشار إلى قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما تعجني جرأة أبي حنيفة، رحمه الله، عندما أجاب حول مراتب حجيته، وقال: "أما إذا انتهى الأمر إلى الحسن وحماد فهم رجال وأنا رجل". وأذكر حادثة وقعت لي قبل عقدين من الزمان تقريبا. فقد خطبت في مسجد في بلدة بيت راس (شمال اربد)، وكانت الخطبة حول حاجتنا إلى فقه جديد يتناسب وأوضاعنا ومشكلاتنا. وأثنيت على فقهائنا القدامى لما قدموه، وان ذلك ثروة فقهية عظيمة، تكون نبراسا وثقافة. وبعد فراغي من الصلاة، وأنا أهم بالخروج من المسجد، اعترضني أحد المصلين. وقال: "ألا يعجبك الشافعي؟ يشرفني أن أكون مسمارا في بسطار (حذاء) الشافعي"! فأجبته: "أنا لا أناقش مسمارا في بسطار الشافعي".

ويتفاصح بعض الخطباء في خطبهم أو دروسهم بذكر بعض المعلومات العلمية، التي جاءتهم عرضا، عنوانا في جريدة، أو جملة على لسان مذيع في الراديو أو التلفاز. وهذا الخطيب لا يملك البنية التحتية لفهمها، أو يدرك قيمتها. وكثيرا ما يكون العنوان غير دال على تفاصيل الخبر. وقد تعجبه هذه العبارة الخبرية العلمية إذا لامست عنده شيئا مما يثبت معجزة القرآن العلمية (كما يظن ذلك). وعندما تحاول أن تصحح له الخطأ، بطريقة مؤدبة، ينفجر في وجهك إنكارا واستنكارا، مما لا علاقة له بأدب أهل العلم، وما تعلمناه من مأثور القول: "لا يزال الرجل عالما ما طلب العلم، فإذا ظن أنه علم فقد جهل". وأذكر أنني في سنة 1974 وقّعْتُ عقدا للعمل في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وكان أحد ما رغبني في العمل فيها أن الشيخ الشعراوي، رحمه الله، كان يعمل فيها. وكنت استمعت إليه في شهر رمضان في محاضرة في عمان، دعته إليها وزارة الأوقاف الأردنية، وأعجبت بما قدمه. وفي جامعة عبد العزيز، كان كثير من الناس من داخل الجامعة وخارجها يأتون للاستماع إلى محاضراته. وبعد إحدى المحاضرات، التي ذكر فيها معلومة جيولوجية قديمة ولكنها خاطئة، تقدم له الزميل الدكتور عبد القادر عابد، استاذ الجيولوجيا في الجامعة، ليصحح له المعلومة، بكل أدب. فما كان من الشيخ الشعراوي إلا أن صده بفظاظة، وبأسلوب منفر، لا يليق بمقامه. واعترف أن تلك الحادثة انقصت كثيرا من احترامي للشيخ. ولكني لا أزال حريصا على الاستماع لدروسه، وأجد فيها فوائد جمة. جزاه الله خيرا.

ومما ينقص الخطباء الاطلاع الحسن على التحليلات على الأخبار وغير ذلك مما يقدمه محللون ليسوا عربا. فعندهم وجهات نظر محترمة مفيدة؛ تزيد في ثقافة الخطيب، وقد تلهمه لخطب ذات مستوى عال. وأذكر أني قرأت سنة 2000 خبرا في مجلة تايم الأمريكية عن أن نسبة انتشار الإيدز بين القساوسة الجزويت (الرهبان اليسوعيون على المذهب الكاثوليكي، الذين نذروا انفسهم لخدمة الرب، ولا يتزوجون)، هي أربعة أضعاف ما هي في المجتمع (الأمريكي). وكان التفسير لذلك هو انتشار عمل قوم لوط بينهم. فكانت خطبتي في الجمعة التالية عن هذا الموضوع؛ وربطت الخبر بقوله تعالى "ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم، فما رعوها حق رعايتها" (الحديد 27). بل إن الجريدة اليومية، والموقع على الشابكة قد يلهمان بموضوعات ذات مساس مباشر بالحياة اليومية ومشكلات الناس ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية. وخطبتُ لثلاث جمع مستلهما بيانا صادرا عن مؤتمر للشباب الأردني وقضاياه وبعض اقتراحاته لحل هذه المشكلات. كما أني استفدتُ من مقالة كتبتها إحدى الباحثات المسلمات حول مخالفات سيداو (البيان العالمي لحقوق النساء) للشريعة الإسلامية. وعندما نشرت الجرائد الأردنية سنة 1994 نص الاتفاقية الأردنية الإسرائيلية (اتفاقية وادي عربة)، كانت خطبي لثلاث جمع تتناول بعض موادها بالتحليل العلمي بعيدا عن المبالغات والتحريض، لأني أؤمن أن فعل المعلومة الصجيحة أبعد أثرا، وأطول زمنا من الكلام المخلوط صوابا بالمبالغات والتحريض أو الأغاليط.

وابتلينا ذات جمعة بخطيب أراد أن يتحدث عن أهم حدث في الأسبوع المنصرم. واشرأبت أعناقنا لنسمع هذا الحدث الأهم وتعليقات الخطيب عليه. وإذ به يعتبر زيارة البابا إلى تركيا الحدث الأهم؛ علما بأن وسائل الإعلام المحلية والعالمية اعتبرتها خبرا قليل الأهمية. فذكرتها الصحف في صفحة داخلية في بضع أسطر على عمود واحد. وأذاعتها قنوات التلفاز لأقل من دقيقة في أواخر النشرات. وماذا أراد الخطيب من هذا الخبر؟ أراد أن يهاجم النصارى أينما كانوا، ودون تمييز، ويتحدث عنهم وكأننا نعيش عصر الحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش الكنسية. وما درى هذا الخطيب أن النصارى جزء لا يتجزأ من المجتمعات العربية، والشعب الأردني بخاصة؛ وأننا نعيش معهم بوئام ومواطنة هي أفضل البراهين على سماحة الإسلام وتطبيق لقوله تعالى : "لا إكراه في الدين" (البقرة 256). وبدأ بالتحريض المكشوف دون تمييز بين الغث والسمين. وما درى أن الكنائس في أوربة مهجورة وتشكو قلة مرتاديها، وأن الجميل منها معمارا تحول إلى مزار سياحي ليجلب بعض الدخل، وبعضها بيع لجمعيات إسلآمية لتتحول إلى مساجد. ولم أطق استرساله، فطلبت منه قطع الخطبة حتى لا تتحول إلى فتنة؛ وحسنا فعل.

يجب أن تدرك وزارة الأوقاف أولا، والخطباء ثانيا، أن الخطبة أمر مهم جدا يجمع الله عز وجل له المسلمين فرضا مرة كل أسبوع. ولذلك يجب اختيار موضوعات ذات مساس مباشر بالمجتمع سواء على النطاق الضيق أو الأوسع، ومعالجتها من وجهة نظر إسلامية لنثبت أن الإسلام قادر على أن يكون الحل أو الوعاء المناسب لها. الخطبة محاضرة علمية في موضوع جديد يلقيه أستاذ ضليع، ومع ذلك يحضر له التحضير الجيد. فقد ولى زمن الارتجال العفوي بما ينثال على لسان الخطيب من أقوال، وولى زمن ما أسميه "سلَطَة الخطبة، أو الخطبة السلَطَة"، وهي الخطبة التي ليس لها موضوع  محدد، ولكنها تنتقل من أمر إلى آخر دون سابق إنذار، ويزينها الخطيب ببضع آيات من القرآن الكريم، وعدد من الأحاديث الشريفة. إن الناس اليوم على مستوى من الثقافة العامة، ونسبة عالية منهم من خريجي الجامعات أو الكليات. وبعضهم يحمل أعلى درجات العلم. والخطبة السلَطَة هي استهزاء بعقول المستمعين، تتحمل وزره وزارة الأوقاف (اسم على مسمى)، إضافة لهولاء الخطباء. لذلك لا بد من التثقيف المتواصل للخطباء على يد من هو أهل لذلك، ولا بد من متابعة خطبهم موضوعات واستقبالا لدى المصلين. وفي حال الخطيب الضعيف، ولا بد منه لإكمال شروط صلاة الجمعة، فليخطب الخطيب بأقل ما يمكن من آية أو حديث ودعاء، وكفى الله شر الخطباء الضعاف، وشر خطبهم الممجوجة.

ألا هل بلغت. أللهم فاشهد.

28 صفر 1434 هـ الموافق 11 كانون الثاني 2013

No comments: